سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء

سليمان بن صرد الخزاعيّ وعدم حضوره في كربلاء1

تمهيد
سليمان بن صرد الخزاعيّ واحد من عظماء شيعة العراق وقادتهم, ومن الأصحاب المقرّبين لأئمّة الشيعة الأوائل. وقد شارك في عهد الإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام في أغلب الأحداث السياسيّة والحروب التي حصلت آنذاك, فكان له سوابق مضيئة في هذا الإطار. ومع أنّ سليمان بن صرد كان من أوائل الذين عملوا على دعوة الإمام الحسين عليه السلام للقدوم إلى العراق, إلّا أنّه تغيَّب عن المشاركة في حادثة عاشوراء. وقد طرحت أسباب متعدّدة ومختلفة حول عدم حضوره, وهذا ما سنحاول تحليله ونقده في هذا المقال. ويتّضح من خلال النظرة الواقعيّة إلى سيرته العمليّة, وجود محطّات تاريخيّة يستفاد منها الدروس والعبر, بالأخصّ في ما يتعلّق بالخواصّ, وذلك على مستوى التأثير في مسير التاريخ. صحيح أنّ الأقوال تعدّدت في توجيه وبيان سبب عدم حضوره كربلاء, إلّا أنّه يمكن الاستنتاج أنّه كان مقصّراً في نصرة الإمام الحسين عليه السلام.

المقدّمة
ممّا لا شكّ فيه أنّ ثورة عاشوراء الدامية والنهضة التبليغيّة اللاحقة التي قام بها أهل البيت عليهم السلام بقيادة الإمام السجّاد عليه السلام وزينب الكبرى عليها السلام قد ألقت


  183


بالمجتمع الإسلاميّ الميّت جسديّاً روح اليقظة والتحرّر ورفض الظلم, والمقاومة والإيثار والتضحية في سبيل الحقّ، فأيقظت قسماً كبيراً من المجتمع الإسلاميّ الذي كان يعيش حالة الغفلة. إنّ هذه الحادثة قد أثّرت في مجتمع المسلمين ولا سيّما الخواصّ منهم الذين تخلّفوا عن قافلة كربلاء, ولم يؤدّوا رسالتهم المهمّة, كما يجب, عن إمامهم في ظروف حساسة ومصيريّة. لقد تخلّف شيعة العراق عن الحركة الإصلاحيّة للإمام الحسين عليه السلام بسبب عدم قدرتهم على اتّخاذ الموقف المناسب والتحرّك في الوقت المناسب؛ لذلك لن نشاهد تأثيراً واضحاً وكبيراً للدعوة التي أطلقها الشيعة, بعد حادثة عاشوراء, على مستوى المشاركة في ما يعرف بثورة التوّابين الدامية.

وإذا نظرنا إلى اختيار العراق من قبل الإمام عليه السلام وإصراره على هذه المعادلة بناءً على حسابات عقلانيّة ومعقولة تتعلّق بأوضاع وظروف العــراق، فـــإنّ ســـيل الرســـائل التـــي أرســـلها أهل العراق إلى سفير الإمام عليه السلام، أي مسلم بن عقيل, وبيعتهم الواسعة له, من جملة الأسباب التي ساهمت في اختيار الإمام عليه السلام الحركة نحو العراق. صحيح أنّ الرسائل الكثيرة التي أرسلت للإمام عليه السلام كانت تتعلّق بمجموعات سياسيّة متنوّعة تحمل دوافع مختلفة، إلّا أنّ السباقين في إرسال الرسائل إلى الإمام عليه السلام وفي دعوته إلى العراق, كانوا شيعة العراق المعروفين والبارزين, وهم الذين قصّروا في الحضور إلى كربلاء. وتعتبر ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعيّ هي الحلقة الأساسيّة في الثورات الشيعيّة التي حصلت في العراق, وهي واحدة من أبرز النتائج الاجتماعيّة لحادثة عاشوراء على المستوى الاجتماعيّ. أمّا المنطق الذي كان يحمله التوّابون, فهو التعويض من الخطأ التاريخيّ الذي تجلّى في عدم نصرة الإمام عليه السلام، فكانوا يعتبرون عدم نصرته معصية لا تغفر إلّا من خلال قتل كافّة الذين شاركوا في قتل الإمام, أو من خلال استشهادهم. وعلى هذا الأساس فإنّ السؤال الأوّل الذي يدور حول التوّابين هو سبب عدم مشاركتهم في كربلاء, وهو سؤال يُطرح في مكان آخر حول بعض خواصّ الشيعة أمثال محمّد بن الحنفيّة, وعبد الله بن عبّاس, وعبد الله بن جعفر, حيث قدّمت إجابات متعدّدة عليه.
 


  184


سنحاول, في المقال الذي بين أيدينا, دراسة مسألة عدم حضور سليمان بن صرد وهو من كبار شيعة الكوفة في ثورة كربلاء مستفيدين, في ذلك, من معايير النقد التاريخيّ, من دون اللجوء إلى الأحكام المسبَّقة.

أ- إطلالة إجماليّة على شخصيّة سليمان بن صرد
سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون الخزاعيّ من كبار الشيعة وأصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والإمامين الحسن والحسين L. ويكنّى أبا مطرف. ويقال كان اسمه في الجاهليّة يسار فلمّا أسلم سمّاه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم سليمان. وهو من المسلمين الأوائل الذين سكنوا الكوفة واتّخذ فيها داراً. توفّي عام 65 (هـ. ق.) عن عمر 93 سنة2. من هنا يمكن القول إنّه ولد قبل 28 عاماً من الهجرة. اختلفت الآراء في كونه صحابيّاً. اعتبرته أغلب مصادر أهل السنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم3 وفي الحدّ الأدنى تحدّثت عنه على أنّه ممّن أدرك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ومع أنّه لا تربطه برسول الله صحبة معتدّ بها. فقد نقل بعض الروايات عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم. ولكن الفضل ابن شاذان صرّح بأنّ سليمان من التابعين وليس من الصحابة4. وقد ذكره مؤرّخو الشيعة والسنّة بالحسنى, وعرّفوه بأوصاف عديدة كالفضل والشرف والزهد والتقوى ونفوذ الرأي.

كان سليمان بن صرد من خواصّ شيعة أمير المؤمنين عليه السلام. شارك إلى جانب الإمام في جميع حروبه أو في أغلبها5. وتبيّن رسالة أمير المؤمنين عليه السلام لسليمان في الجبل, أنّه كان أحد عمّاله في تلك المنطقة6.وفي سيرته مواقف مشرّفة


  185


ومضيئة, كقيادته قسماً من جيش الإمام في صفّين, وقتاله بشجاعة, ومبارزته مع حوشب وجهاً لوجه وقتله إيّاه7. بعد أن قبل الإمام عليه السلام بالتحكيم جاءه سليمان بوجه مجروح. وعندما شاهده الإمام على هذه الحال وهو ملطّخ بالدماء تلا قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً8, وخاطبه قائلاً: "أنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدّل، فقال له سليمان بن صرد: طبعاً يا أمير المؤمنين لو كان لديك أنصار لما قبلت بالتحكيم أبداً, والله لقد مشيت في العسكر لأن ألتمس أعواناً ولأن يعودوا إلى أمرهم الأوّل فما وجدت إلّا قليلا، وما في الناس خير"9.

وأمّا ما يثير الإبهام حول سليمان فهو رسالة كتبها إليه عبد الله بن مسعود, يدعوه فيها لحرب صفّين يقول فيها, بعد أن أشار إلى الآية العشرين من سورة الكهف:
﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا10, قال له: فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين11. إنّ هذا القول الذي يحمل لحن الترغيب في الجهاد, يمكن أن يؤيّد الرأي القائل بأنّ سليمان كان مردّداً في ذلك.

من جهة أخرى, فإنّ مسألة حضوره حرب الجمل أو عدم حضوره, من المسائل التي أثارت الكثير من الاختلافات واللغط بين المؤرّخين حوله. فقد تحدّثت أغلب المصادر عن تخلّفه عن المشاركة في حرب الجمل وقد عاتبه الإمام عليّ عليه السلام بسبب ذلك. طبعاً اختلف نصّ الروايات التي تحدّثت حول هذا الأمر12.

يقول البلاذريّ: "[بعد حرب الجمل] تلقّى سليمان بن صرد الخزاعيّ عليّاً عليه السلام وراء نجران الكوفة فصرف عليّ عليه السلام وجهه عنه حتّى دخل الكوفة، وذلك أنّه كان


  186


ممّن تخلّف عنه. فلمّا دخل الكوفة عاتبه وقال له: كنت من أوثق الناس في نفسي، فاعتذر وقال: يا أمير المؤمنين استبق مودّتي تخلص لك نصيحتي"13.

وذكر البلاذريّ في كتابه أخباراً أخرى عن الحادثة، يمكن الخدش في مضمون بعضها. بالإضافة إلى وجود أشخاص في سلسلة سند هذه الرواية, حسب بعض الأخبار, متّهمين بالكذب والوضع. من هنا رفض بعض علماء الشيعة أمثال السيّد الخوئيّ هذه الرواية, واعتبر أن تخلّفه عن حرب الجمل كان بسبب عذر مقبول عند سليمان14.


ويمكن اعتبار الدوافع القبليّة هي التي كانت وراء إعراض سليمان عن حرب الجمل, وإصراره على حرب صفّين. ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى النزاعات القديمة بين القحطانيّين والعدنانيّين, والتي تجدّدت في ما بعد في قالب النزاع بين العراقيّين والشاميّين، حيث يمكن, من خلال ذلك, إدراك السلوك السياسيّ لأشخاص مثل سليمان الذي كان يعتبر واحداً من القبائل العربيّة الجنوبيّة.

وعلى كلّ حال، إذا أردنا أن ننظر نظرة سلبيّة, يمكن من خلال إصرار سليمان على استمرار الحرب مع الشاميّين في صفّين, ومخالفته الصلح فيها, وكذلك إصراره على استمرار الحرب في عهد الإمام الحسن عليه السلام ضدّ الشاميّين وليس الكوفيّين، أن نفسّر ظهور ثورة التوّابين بالدوافع القبليّة والقوميّة أيضاً. طبعاً يجب الإلتفات إلى مسألة وهي أنّ التاريخ عاجز عن كشف الدوافع الحقيقيّة والداخليّة للأشخاص.

أشرنا إلى أنّ سليمان هو من جملة أصحاب الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وشيعته، إلّا أنّه كان يعترض على الإمام, بعد الصلح مع معاوية, حتّى إنّه خاطب الإمام بعبارة "مذلّ المؤمنين". وقد وضّح للإمام عليه السلام رأيه في الصلح قائلاً:ما ينقضي تعجّبنا منك, بايعت معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من الكوفة سوى أهل البصرة والحجاز! ثمّ لم تأخذ لنفسك, ولا لأهل بيتك, ولا لشيعتك, منه


  187


عهداً وميثاقاً في عقد ظاهر، لكنّه أعطاك أمراً بينك وبينه ثمّ إنّه تكلّم بما قد سمعت... ثمّ قال: أرى والله أن ترجع إلى ما كنت عليه وتنقض هذه البيعة، فقد نقض ما كان بينك وبينه!

وتحدّث المسيّـب بن نجيّة ومجموعة أخرى بكلام كالذي تقدم فخاطبهم الإمام عليه السلام: إنّ الغدر لا خير فيه، ولو أردت لما فعلت. لكنّي أردت بذلك صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض15.

برزت شخصيّة سليمان بشكل جدّي على الساحة السياسيّة في أيّام الإمام الحسين عليه السلام. فكان في مقدّمة الذين كتبوا يدعون الإمام الحسين عليه السلام للثورة. وذلك عندما وصل خبر هلاك معاوية وخلافة يزيد إلى الكوفة, واطَّلع الشيعة على عدم قبول الإمام البيعة ليزيد, وعرفوا أنّ الإمام يتجهّز للثورة ضدّ النظام الأمويّ، اجتمعوا في منزل سليمان حيث بدأوا يتباحثون حول مستقبل الأمّة الإسلاميّة16. إنّ اختيار منزل سليمان كمركز للتنظيم والإعداد الفكريّ, على مستوى الشيعة, يؤكّد ويبيّن المنزلة المهمّة لسليمان عند شيعة الكوفة؛ لذلك تمّ اختياره في ما بعد قائداً لثورة التوّابين الشيعيّة17.

ينبغي الإشارة إلى أنّ سليمان- قبل أن يكتب إلى الإمام عليه السلام - حصل على تعهّد من الشيعة بنصرة الإمام وأن لا يتركوه وحيداً18.
إنّ سليمان كان يتوقّع تراجع أهل الكوفة وعدم وفائهم بالعهد, وهذا التوقّع لم يكن أمراً صعباً باعتبار أنّ الكوفيّين لهم تاريخ في الغدر, ونقض المواثيق مع الأئمّة السابقين, وهي مدوّنة على الصفحات السوداء من تاريخهم.

إنّ وجهاء الشيعة الذين كانوا من أوائل من كتبوا للإمام الحسين عليه السلام لم يستطع أحد منهم أو لم يسع للحضور إلى كربلاء, إلّا حبيب بن مظاهر ومسلم بن


  188


عوسجة, وأمّا من تبقّى من أولئك فقد تخلّف عن المشاركة في كربلاء!

وقد اختلفت الآراء في سبب عدم مشاركة قادة الشيعة, ومنهم سليمان في كربلاء، حيث سنحاول في ما يلي توضيح هذه الآراء ونقدها.

ب- أسباب عدم حضور سليمان في واقعة عاشوراء

1ـ وضع قادة الشيعة في السجون, منذ تحرّك مسلم إلى ما بعد عاشوراء:
تغيّرت الأوضاع في الكوفة بعد مجيء عبيد الله بن زياد, فاتّجهت نحو ما فيه ضرر للشيعة. قرّر عبيد الله التخلّص من مسلم وأتباعه, فسجن عدداً كبيراً من الشخصيّات الشيعيّة19. وعلى الرغم من أنّ المصادر التاريخيّة المعتبرة لم يتحدّث أيّ منها عن وجود سليمان، والمسيّب، ورفاعة والقادة الآخرين من التوّابين في السجن، إلّا أنّ بعض علماء الشيعة يعتقد بأنّ أمثال سليمان لم يتمكّنوا من نصرة مسلم, بسبب وجودهم في السجن, وبذلك لم يتمكّنوا من الحضور في كربلاء. ويقول بعض الباحثين في تاريخ الشيعة: "ومن ثَمّ تجد قلّة في أنصاره مع كثرة الشيعة بالكوفة, ولقد كان في حبسه اثنا عشر ألفاً كما قيل, وما أكثر الوجوه والزعماء فيهم, أمثال المختار, وسليمان بن صرد الخزاعي, والمسيّب ابن نجبة, ورفاعة بن شدّاد, وإبراهيم بن مالك الأشتر"20.

ويؤيّد هذا الإحتمال مجموعة من الشواهد التاريخيّة:
أ- إذا أخذنا بعين الاعتبار التاريخ المشرّف لهؤلاء العظماء, بالأخصّ في ملازمتهم لأئمّة الشيعة, وحضورهم البارز في الساحات العسكريّة, بل والثبات العظيم لبعضهم في ميادين القتال- كما سبق وأشرنا, وقد تجلّى ذلك بوضوح


  189


في ثورة التوّابين الدامية- فمن البعيد جدّاً أن يكونوا قد سمعوا نداء مظلوميّة واستغاثة سيّد الشهداء وسفرائه, ثمّ, وبسبب الخوف أو التردّد, تركوا إمامهم وحيداً مع أنّهم أصرّوا على دعوته في بادئ الأمر.

ب- عندما توقّف الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، خاطب ابن زياد الناس في الكوفة طالباً منهم المسير نحو كربلاء, لقتال الإمام الحسين عليه السلام وهدّدهم قائلاً: "فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلّفاً عن العسكر برئت منه الذمّة"21.

ويقصد من هذا الكلام أنّ كلّ من لم يلتحق به سيقتل، لذلك أمر ابن زياد القعقاع بن سويد التجوّل في المدينة ومراقبة من تخلّف عن العسكر. وأثناء تجواله وجد شخصاً من قبيلة همدان قدم الكوفة طلباً لإرث له. أخذه إلى عبيد الله فأمر بقتله, فلم يُر بالغٌ يتجوّل في الكوفة بعد ذلك إلّا وقد التحق بمعسكر الكوفة, أي أنّه ذهب إلى النخيلة22.


بناءً على ما تقدّم, فأهل الكوفة لم يكن باستطاعتهم عدم الذهاب إلى كربلاء؛ لأنّ عدم ذهابهم يعني مقتلهم. أمّا الشيعة الذين كانوا يرفضون الإلتحاق بجيش عبيد الله بن زياد, فكان أمامهم طريقان: إمّا الالتحاق بالإمام سرّاً, أو الهروب من الكوفة. وبما أنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا في كربلاء, ولم يتحدّث أحد عن هروبهم حيث إنّ الهروب لا يتناسب مع شجاعتهم وقدراتهم العسكريّة، لذلك فالإحتمال الأقوى أن يكونوا في السجن.

ج ـ خاطب الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عدداً كبيراً من الذين أرسلوا إليه بالرسائل وعاتبهم كيف دعوه للمجيء ثمّ خذلوه23. إلّا أنّه لم يأت على ذكر كبار الشيعة، فلو كانوا قصّروا في حقّ الإمام، لكانوا يستحقّون العتاب أكثر من الآخرين. وهذا يعني أنّ أمثال سليمان قطعاً كانت لهم أعذارهم في عدم التحاقهم


  190


بالإمام. إلّا أنّه, وكما أشرنا سابقاً, فإنّ أيّاً من المصادر التاريخيّة المعتبرة لا يؤيّد ذلك. يضاف إلى ذلك أنّ بعض عظماء الشيعة الآخرين أمثال حبيب بن مظاهر لم يكونوا في السجن, مع أنّهم كانوا من قادة الشيعة المعروفين, ومن الذين دعوا الإمام الحسين عليه السلام للقدوم، فإذا كان الكلام في أنّ قادة الشيعة كانوا مسجونين لكان يجب وجود حبيب بن مظاهر معهم.

2- وجود مانع لعدم الحضور في كربلاء:
لقد اتخذ عبيد الله بن زياد العديد من الإجراءات التي من شأنها منع الناس من الإلتحاق بالإمام عليه السلام. وضع الكوفة تحت مراقبة مشدّدة24، واعتبر أنّ النقباء25 هم المسؤولون عن كلّ ما يجري في الكوفة, وهدّدهم بأنّ كلّ من يخفي عنه شيئاً فسيكون مصيره الإعدام. وحذّر الناس بأنّ كلّ من يشتبه بتعاونه مع الإمام الحسين عليه السلام فإنّ مصيره القتل من دون محاكمة وسيحرق منزله وتصادر أمواله26. وأسّس لجاناً أمنيّة خاصّة شدّدت الخناق على الداخل والخارج إلى الكوفة. وأمر الحصين بن نمير بمراقبة المنطقة الممتدّة بين القادسيّة وقطقطانة وأن يمنع من يريد العبور إلى ناحية الحجاز حتّى لا يلتحق بالإمام27. وكتب إلى واليه على البصرة يأمره ببثّ العيون ومراقبة الطرق واعتقال كلّ من يعبر عنها28. وكذلك أمر بمراقبة الطرق بين الواقصة نحو الشام إلى طريق البصرة وأن لا يسمح لأحد بالعبور في تلك المنطقة29. وممّا يذكر أنّ حبيب بن مظاهر، دعا بني أسد الذين كانوا يسكنون بالقرب من تلك المنطقة، إلى نصرة الإمام الحسين عليه السلام. إلّا أنّ جيش عبيد الله منع سبعين شخصاً منهم أرادوا الوصول إلى


  191


كربلاء والالتحاق بالإمام عليه السلام30.

بناءً على ما تقدّم كيف يمكن للشيعة الالتحاق بالإمام ونصرته؟ ومن الواضح أنّ هذا الجواب ليس صحيحاً ولا كافياً، لأنّه- كما أشرنا- وبرغم الصعوبات والمراقبة الشديدة، فقد تمكّن بعض الأشخاص أمثال حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وآخرين من الالتحاق بالإمام31.

3- عدم توقّع شهادة الإمام الحسين عليه السلام:
منذ أن وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء, كان قد بقي إلى اليوم العاشر من محرّم ثمانية أيّام. خلال تلك المدّة, لم يكن أحد من الناس يتوقّع حصول الحرب والقتل، وكانوا يعتبرون جيش عبيد الله ابن زياد هو أقرب إلى أن يكون تهديداً عسكريّاً من أن يرتكب فاجعة أو مذبحة قتاليّة. حتّى إنّ بعض قادة معسكر عبيد الله بن زياد كالحرّ بن يزيد تعجّب يوم العاشر من صدور الأمر بقتل الإمام، فبعد أن وجد الأمر جدّياً في قتال وقتل أهل البيت عليهم السلام التحق بالإمام عليه السلام 32. تحدّث الحرّ مع الإمام بحالة من الخجل وقال له: "والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أنّي خرجت عن طاعتهم"33.

الظاهر أنّ الكثير من الشيعة كانوا يعتقدون بأنّ الخلاف بين الإمام عليه السلام وبني أميّة يمكن حلّه من خلال الصلح والحوار وكانوا لا يتوقّعون أن تصل دناءة يزيد وانحطاطه إلى مستوى إراقة دماء أفضل عباد الله وبقيّة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الوحيد على الأرض, وذلك في شهر يحرم فيه القتال, سواء كان في العادات العربيّة القديمة, أو طبقاً لأحكام وتعاليم الإسلام.


  192


وكان الشيعة قبل ذلك قد شاهدوا الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية وحضروا قضيّة التحكيم بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية، فكانوا يتوقّعون أيضاً حلّ هذا الخلاف طبق الأسلوب السابق، ولكنّهم غفلوا عن أن يزيد لم يكن كمعاوية, وأنّ الظروف الحاكمة في هذه المرحلة لا تشبه تلك التي كانت في زمن الأئمّة عليهم السلام السابقين.

صحيح أنّ هذا الإحتمال عند مقارنته بالاحتمالات الأخرى يبدو هو الأقرب، إلّا أنّه ليس تامّاً أيضاً؛ لأنّنا نجد أنّ الكثيرين قد حذّروا من التوجّه نحو الكوفة وذكّروه بخداع الكوفيّين, وتوقّعوا شهادة الإمام وأصحابــه, بالإضافــة إلى أنّ الإمام عليه السلام قد أخبر مراراً عن شهادته في هذا السفر. بناءً على هذا فإنّ شهادة الإمام عليه السلام لم تكن خافية على كلّ صاحب بصيرة في ظلّ الظروف والقرائن والأجواء الحاكمة على العراق من قبل يزيد، وفي أقلّ الاحتمالات كان هناك احتمال وجود خطر يتهدّد الإمام عليه السلام من قبل جيش يزيد المجرم الذي لم يكن مقيّداً بأي من الأحكام والقيم الإسلاميّة، وهذا يتطلّب استعداداً خاصّاً من قبل الشيعة. وقد تمّ اختبار هؤلاء الناس في قضيّة مسلم فكانت الفرصة مؤاتية للوفاء بوعودهم ودعواتهم, ولكن لم يظهر منهم أيّ عمل مؤثّر. لذلك يمكن القول إنّ الشيعة في تلك المرحلة كانوا يعيشون حالة انعدامٍ للإرادة وحالة حيرة وفقدان للقائد المفكّر الشجاع في الكوفة, والذي يمكنه إيجاد حالة الإتحاد والإنسجام بين الشيعة، بالأخصّ بعد شهادة مسلم بن عقيل وفقدان القائد الذي يمكنه توضيح التوجّه السياسيّ لهم في تلك المرحلة الحسّاسة، وهذا ما دفع بالشيعة إلى مواجهة أزمة كبيرة. في الواقع فإنّ الشيعة قد اتّبعوا, في هذه المرحلة, سياسة السكوت والإنتظار والاستسلام للقدر. والملاحظ أنّ كبار الشيعة, في الكوفة, تخلّفوا عن مسلم عند قدومه إليها، ولعلّ ذلك كان بحجّة أنّهم بايعوا الإمام عليه السلام ووعدوه بالنصرة ولم يبايعوا مسلماً! لذلك امتنعوا عن نصرته34.

إنّ قساوة عبيد الله بن زياد كما ذكرنا وتضييقه على الشيعة وشهادة سفير


  193


الإمام عليه السلام في الكوفة، ساهم في وجود خطر حقيقيّ يهدّد حياة الإمام، لذلك كان يتوقّع من الشيعة الإلتحاق بالإمام ونصرته عند بروز الخطر ولم يكن يتوقّع منهم السكوت والإنتظار والاستسلام للقدر. ولعلّ هذا السكوت هو الذي أحيا التوبة والندم والإحساس بالذنب بين الشيعة. ونقلت بعض المصادر أنّ بعض أهل الكوفة كان, يوم العاشر, يعتلي الجبل ويتوجّه إلى الله تعالى بالدعاء: "اللهم انزل عليه نصرك", وقد شاهدوا بأنفسهم غربة ووحدة إمامهم35.

4- خطأ التوّابين في خذلان الإمام عليه السلام:
أمّا الاحتمال الحقيقيّ الآخر الذي يمكنه أن يكون السبب في عدم حضور قادة التوّابين, ومن جملتهم سليمان بن صرد, في كربلاء فهو تقصيرهم في نصرة الإمام الحسين عليه السلام. لقد أصيب هؤلاء القادة بالرعب فامتنعوا بكامل اختيارهم عن نصرة الإمام, مع أنّه كان بإمكانهم ذلك. من هنا وقعوا في خطأ ومعصية كبيرين في التاريخ. ويؤيّد هذا الإحتمال شواهد متعدّدة:

أ- اعتراف التوّابين بذنبهم:
فبالإضافة إلى ما صرّح به بعض المؤرّخين الذين حكموا بخطأ الشيعة في عدم نصرة الإمام 36، فإنّ خطابات الشيعة وكلماتهم القويّة تبيّن اعترافهم بهذا الخطأ. نقل عن المسيّب بن نجبة, وكان أوّل المتحدّثين:"وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتّى بلى الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله وأعذر إلينا يسألنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيّة وسرّاً, فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قوّيناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا, فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء


  194


نبيّنا صلى الله عليه واله وسلم وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله؟!, لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا..37 ". يبدو من ظاهر عبارات سليمان وأصحابه أنّهم كانوا على خطأ وأنّهم ارتكبوا معصية واشتباهاً في عدم نصرتهم الإمام عليه السلام عدا عن أنّ معنى التوبة في الأساس هو الإعتراف باقتراف المعصية، وهي التي شكّلت القاعدة الأساس لحركة التوّابين كما أنّها تشير إلى حقيقة أخرى وهي أنّهم كانوا واقعين في ورطة مشتركة.

أمّا الذين أيّدوا احتمال وجود التوّابين في السجون أثناء ثورة عاشوراء فأشاروا إلى أنّ التوبة كانت لعدم قدرة هؤلاء الأشخاص على تهيئة الأرضيّة الضروريّة لحضور الإمام في العراق، وهذا يعني أنّهم لمّا لم يتمكّنوا من اتخاذ موقف صحيح, في تلك المرحلة الحسّاسة, ولم يعملوا بكلّ ما أوتوا من قوّة لتنظيم الشيعة لما من شأنه إخراج السلطة من أيدي بني أميّة, وإرجاع الخلافة إلى أبناء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، لذلك كانوا يعتبرون أنفسهم مقصّرين. ولكن وكما أشرنا فإنّهم تحدّثوا بصراحة عن عدم نصرهم الإمام بأموالهم وعشائرهم, وهذا يعود إلى ما قبل عاشوراء وقبل حادثة مسلم بن عقيل.

ب- سليمان وسابقة مخالفة الإمام عليّ عليه السلام:
يتحـــدّث بـعـــض المؤرّخين عن سليمان بأنّه كان قد تخلّف عن نصرة الإمام عليّ عليه السلام في حرب الجمل وقد عاتبه الإمام عليه السلام على ذلك. ويشير عتاب الإمام له إلى أنّه كان مقصّراً. وكذلــــك يتّضـــح من خلال اعتراضه على صلح الإمام الحسن عليه السلام ودعوته الإمام الحسين عليه السلام للحرب مع معاوية، أنّه كان شخصاً ضعيف الاعتقاد بالولاية, ويفتقد للرؤية السياسيّة الثاقبة. هذا بالإضافة إلى وجود إبهام كبير في أوضاعه المتعلّقة بمساعدة مسلم بن عقيل. وينطبق هذا الأمر أيضاً على المسيّب بن نجبة الذي تخلّف عن أوامر الإمام عليّ عليه السلام في الماضي, وذلك عندما أرسله الإمام للقضاء على حركة عبد الله بن مسعدة, في مكّة, فكان شديد الحذر


  195


في التعامل معه, باعتبار أنّ عبد الله بن مسعدة كان ينتمي إلى قبيلته، وبالرغم من تأكيد الإمام عليه السلام وتشديده على المسيّب في التعامل مع عبد الله, فإنّ المسيّب وبسبب الروابط القبليّة قصّر في تعامله معه وهيّأ الأجواء للفرار. ولذلك عاتبه الإمام عليّ عليه السلام على ذلك وسجنه، ثمّ عفا عنه بعد مدّة, وأطلق سراحه وجعله مسؤول الزكاة في الكوفة38.

يعتبر ابن سعد من الأشخاص الذين يعتقدون أنّ سليمان لم يتمكّن من اتخاذ قرار نصرة الإمام لما كان يتصّف به من روحيّة مفرطة في الشكّ والتردّد.
وسليمان من الذين كتبوا إلى الإمام عليه السلام يدعونه للقدوم إلى الكوفة، ولكن عندما جاء الإمام الحسين عليه السلام امتنع عن نصرته ولم يحارب في ركابه, وهو شخص كثير الشكّ والتردّد لذلك ظهر عليه الندم بعد مقتل الحسين عليه السلام.

طبعاً لا ينبغي التعاطي مع نظريّة ابن سعد هذه على أنّها نظرة إيجابيّة. وبالتالي لا بدّ من الالتفات إلى مسألة مهمّة وهي أنّ العديد من مؤرّخي ومؤلّفي أهل السنة حاولوا جاهدين وضع مسألة شهادة الإمام الحسين عليه السلام على عاتق الشيعة حيث عملوا على تضخيم المعصية التي ارتكبها الشيعة في عدم نصرة إمامهم, وبالتالي القول بأنّ الشيعة هم الذين تسبَّبوا في ما جرى مع الإمام الحسين عليه السلام من مصائب في أرض كربلاء. ومن الواضح أنّ ما يتحدّث عنه هؤلاء المؤرّخون ما هو إلّا مؤامرة كبيرة تحاول حجب الأبصار عن الحقائق التاريخيّة البيّنة. فعلى الرغم من أنّ يزيد قتل الإمام الحسين عليه السلام بسيوف أهل الكوفة، إلّا أنّه يجب الإلتفات إلى أن الكوفة هي محلّ تواجد كبار أتباع الأمويّين وقادتهم, فالشيعة لم يكونوا الوحيدين في هذه المدينة, بل كان فيها قبائل غير متجانسة من ناحية الميول والتوجّهات. كذلك يجب الإلتفات إلى مسألة أخرى, وهي أنّ شيعة الكوفة لم يكونوا الوحيدين أيضاً الذين دعوا الإمام للحضور، بل قام بذلك كبار أهل الكوفة والأشراف فيها, حيث كتبوا للإمام ثمّ سلّوا سيوفهم عليه يوم العاشر من المحرّم.


  196


ج - تقييم ثورة التوّابين:
إنّ تقييم ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد، هي مسألة يمكنها أن تحدّد رأينا في كيفيّة سلوك سليمان. وعلى الرغم من أنّ ثورة التوّابين هي من النتائج الاجتماعيّة المهمّة لثورة عاشوراء (الثورة التي أيقظت في المجتمع الإسلاميّ المنكوس والمنهزم, روح الجهاد ومحاربة الظلم والغيرة الدينيّة, والتي أشعلت نار الإعتراض على الأمويّين, فهيّأت الأرضيّة للثورات اللاحقة)، إلّا أنّها كانت تتضمّن الكثير من العبر والكثير من النقاط المريرة والتي توضح لنا بعض أبعاد شخصيّة سليمان. يمكن القول, من خلال كلمات قادة التوّابين, إنّ هذه الثورة ما هي إلّا ردّة فعل روحيّة ونفسيّة نشأت من إحساس مقدّس، إلّا أنّها لم تصل إلى نتائج عمليّة لعدم وجود البصيرة اللازمة وعدم أهليّة قادتها عسكريّاً. إنّ من أهمّ العيوب الموجودة في هذه النهضة الشيعيّة هو: عدم قبول الحرب ضدّ قاتلي الإمام الحسين عليه السلام في الكوفة الناشىء من التعصّبات القبليّة والقوميّة39، وكذلك التعاطي العاطفي والتفكير السطحيّ وعدم التخطيط الصحيح للثورة. والأهمّ من ذلك دفاع مخالفي أهل البيت عن الثورة, وعن أسلوب سليمان, وترجيحه على المختار (تشجيع آل الزبير لثورة سليمان وخروجه من الكوفة وحربه مع الشاميّين)، وعدم تأييد الإمام السجّاد عليه السلام الصريح للثورة. لذلك لا يمكن اعتبار حركة التوّابين أنّها كانت حركة موفّقة بالكامل. وممّا لا شكّ فيه أنّ سليمان والمقرّبين منه لو تمكّنوا من الانطلاق بثورتهم ببصيرة وتخطيط وتنظيم أفضل لكان أمكن أن يُكتب للشيعة مصير آخر.

وإذا أخذنا بعين الإعتبار وقبلنا رأي المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ في سليمان بن صرد، لتمكنّا من الإجابة عن الكثير من الأسئلة والإبهامات حوله. كان المختار من الذين جاءوا إلى الكوفة أثناء ثورة التوّابين وشاهد عن قرب بداية تشكلّها، وكان يحذّر الشيعة من المشاركة في ثورة سليمان، حتّى إنّه كان يتحدّث حول شخص سليمان ويقول: "لا علم له بالحروب والسياسة". وكتب المؤرّخون أنّ رأي


  197


المختار في سليمان ساهم في تفريق الكثير من الشيعة عن سليمان. إنّ رأي المختار بن أبي عبيدة الذي تحقّق وظهر في أحداث ثورة التوّابين يبيّن حقيقة مرّة, وهي أنّ الخواصّ- على الرغم من اعتقادهم بالإمامة والتاريخ الطويل لبعضهم في الدفاع عن الولاية- كانوا يفتقدون البصيرة السياسيّة، والشجاعة، ومعرفة الزمان، والثبات في اتخاذ القرارات. وهذا ما أدّى إلى تردّدهم في الحضور إلى كربلاء، وعدم توفّقهم أيضاً في التعويض من الخطأ الذي ارتكبوه.

النتيجة
عرضت عدّة احتمالات لعدم حضور سليمان بن صرد في حادثة عاشوراء:


الأول: أنّ سليمان وباقي وجهاء الشيعة كانوا في سجون عبيد الله بن زياد منذ بداية ثورة الإمام الحسين عليه السلام ودخول مسلم بن عقيل الكوفة. صحيح أنّ هذا الإحتمال ممكن ويبرّئ سليمان وأصحابه من كلّ معصية, إلّا أنّ أيّاً من المصادر التاريخيّة المعتبرة لم تؤيّده.

الثاني: وجود مانع بسبب التدابير الأمنيّة المشدّدة التي اتخذها عبيد الله بن زياد, يمنع وصول الشيعة إلى الكوفة, وبذلك لم يتمكّن سليمان وأصحابه من الوصول. وينتفي هذا الإحتمال عند ملاحظة أنّ بعض الشخصيّات أمثال حبيب بن مظاهر, قد وصلوا إلى كربلاء, ووجود حبيب في كربلاء هو دليل قويّ على إمكان حضور الشيعة فيها.

الثالث: عدم توقّع شهادة الإمام الحسين عليه السلام وظهور احتمال عدم الحرب بين الإمام عليه السلام وجيش يزيد. وهذا بحدّ ذاته عذر أقبح من ذنب؛ لأنّ الحوادث التي وقعت أمثال: الظروف المسيطرة على الكوفة، تضييق الأمويّين، شهادة مسلم وهاني وقيس وعبد الله بن يقطر وآخرين, وإعداد جيش كبير لمواجهة الإمام الحسين عليه السلام، كلّ ذلك يوضح لكلّ صاحب بصيرة وقوع حرب عظيمة دامية, وهذا يتطلّب مزيداً من اليقظة والتحرّك من قبل خواصّ الشيعة.

وعلى كلّ حال, فإذا أخذنا بعين الإعتبار اعتراف قادة التوّابين الصريح بخطئهم في عدم نصرة الإمام وإظهار ندمهم على ضعف حركتهم في قضيّة


  198


كربلاء, وإصابتهم بعذاب الوجدان في تركهم الإمام وحيداً, حيث لم يجدوا ما يعوّض من ذلك سوى مقتلهم، وكذلك سابقة تخلّفهم عن الأئمّة المتقدّمين، كلّ ذلك يوضح لنا أنّ سليمان وأصحابه من خواصّ الشيعة كانوا مقصّرين في نصرة الإمام, حيث تركوه وحيداً. وأمّا حركة التوّابين, وعلى الرغم من الثمار القليلة التي حملتها، فهي أشبه ما تكون بثورة عاطفيّة ووجدانيّة أكثر منها أن تكون إصلاحيّة لها آثارها الاجتماعيّة.


  199


هوامش

1-عبد الرضا عرب أبو زيد آبادي, حوزويّ وماجستير في تاريخ الإسلام.

2-محمّد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج 4، ص 292/ ابن عبد البرّ، الإستيعاب، ج 2، ص 210 ـ 211/ ابن الأثير، أسد الغابة، ج 2، ص 297 ـ 298/ ابن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 3، ص

 144.

3-أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 4، ص 262/ ابن حجر العسقلانيّ، فتح الباري، ج 1، ص 316/ الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج 2، ص 113/ السيوطيّ، الدرّ المنثور، ج 4، ص 322.

4-"ومن التابعين الكبار ورؤسائهم وزهادهم" (الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج 1، ص 286/ الأردبيليّ، جامع الرّواة، ج 1، ص 318).

5-شمس الدّين محمّد الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج 5، ص 46.

6- "وكتب إلى سليمان بن صرد وهو بالجبل: ذكرت ما صار في يديك من حقوق المسلمين وإنّ من قبلك وقبلنا في الحقّ سواء فأعلمني ما اجتمع عندك من ذلك فأعط كلّ ذي حقّ حقّه وابعث إلينا بم

ا سوى ذلك لنقسمه فيمن قبلنا إن شاء

 الله". (ابن قتيبة الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 163).


7-ابو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 171/ نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 205.

8-الأحزاب: 23.

9-نصر بن مزاحم المنقريّ، المصدر نفسه، ص 197/ محمّد بن عبد الله الأسكافيّ، المعيار والموازنة، ص 181.

10- الكهف: 20.

11-نصر بن مزاحم المنقريّ، وقعة صفّين، ص 313.

12-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 271/ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 105/ أبو بكر عبد الرزاق الصنعانيّ، المصنف، ج 8، ص 717.

13-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 2، ص 273.

14-الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 8، ص 271.

15-ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 197.

16-الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 36/ محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 261/ اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 228/ أبو مخنف، مقتل الحسين، ص 15.

17-أبو مخنف، مقتل الحسين، ص 262/ ابن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 3، ص 144/ ابن كثير الدمشقيّ، البداية والنهاية، ج 8، ص 279.

18-"... فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه, وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه. قالوا لا! بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه" (أبو مخنف، مقتل الحسين، ص:15)

19-اتفقت الآراء حول بعض الأفراد أمثال ميثم التمّار وعبد الله بن الحارث والمختار، على الرغم من أنّ ميثم قد استشهد قبل حادثة عاشوراء.

20-محمّد حسين المظفّر، تاريخ الشيعة، ص 42.

21-أبو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 254 ـ 255.

22-مرتضى العسكريّ، معالم المدرستين، ج 3، ص 83.

23-خاطب الإمام الحسين يوم عاشوراء جيش عمر بن سعد فقال: "... يا شبث بن ربعيّ يا حجّار ابن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّت الجنات

 وطمّت الجمام وإنّما تقدم على جند لك مجند فاقبل". قالوا له: "لم نفعل..." (أبو مخنف، مقتل الحسين ص 118).

24-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 263.

25-النقباء هم المكلّفون ملاحقة ومراقبة أمور القبيلة والعلاقة بين القبيلة والحكومة حيث يتولّى الحاكم النظارة على القبيلة بواسطته (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 5، ص 101/ ابن منظور،

 لسان العرب، ج 5، ص 769).

26-المصدر نفسه، ج 4، ص 267.

27-أبو حنيفة الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص 243.

28-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 263.

29-المصدر نفسه، ص 295.

30-البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج 3، ص 180/ ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج 5، ص 159.

31-ابن قتيبة الدينوريّ، الإمامة والسياسة، ج 2، ص 7.

32-أحمد بن محمّد مسكويه، تجارب الأمم، ج 2، ص 70.

33-أبو مخنف، مقتل الحسين، ص 121/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 99.

34-محمّد سرور مولائيّ، سيّد الشهداء، برواية الطبريّ وإنشاء البلعميّ، ص 13.

35-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 295.

36-"تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ورأت أنّها قد أخطأت خطأ ً كبيراً" (أبو مخنف، مقتل الحسين، ص 248/ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 426).

37-أبو مخنف، مقتل الحسين ص 248 ـ 249.

38-اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج 2، ص 196/ الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 103. (كان [سليمان] في من كتب إلى الحسين بن عليّ أن يقدم الكوفة، فلمّا قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه، كان

 كثير الشكّ والوقوف، فلمّا قتل الحسين ندم).

39-الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 432.