الليلة السادسة: مجلس أصحاب الحسين عليه السلام

مَشَوا إلى الحَرْبِ مَشْيَ الضَّارياتِ لهَا                   فَصَارَعُوا المَوْتَ فِيها وَالقَنا أَجَمُ

وَخائِضِينَ غِمَارَ المَوْتِ طَافِحَةً                          أَمْواجُها البِيضُ فِي الهَاماتِ تَلْتَطِمُ

وَلا غَضَاضَةَ يَوْمَ الطَّفِّ إنْ قُتِلُوا                        صَبْراً بِهَيْجاءَ لِمْ تَثْبُتْ لَهُمْ قَدَمُ

أَفْناهُمُ صَبْرُهُمْ تَحْتَ الضَّبا كَرَماً                         حَتَّى مَضَوْا وَرِداهُمُ مِلْؤُهُ كَرَمُ

سَقْياً لِثاوِينَ لَمْ تُبلِلْ مَضَاجِعَهُم                          إلّا الدِّماءُ وإلَّا الأَدْمُعُ السُّجُمُ

مُوَسَّدِينَ عَلَى الرَّمْضاءِ تَنْظُرُهُم                          حَرَّى القُلُوبِ عَلَى وَرْدِ الرَّدَى ازْدَحَمُوا

أَبْكِيهمُ لِعَوَادِي الخَيْلِ إنْ رَكِبَتْ                           رُؤوسُها لَمْ يُكَفْكِفْ عَزْمَها الَّلحْمُ

وَحائِراتٍ أَطارَ القَوْمُ أَعْيُنَها                             رُعْباً غَدَاةَ عَلَيْها خِدْرَها هَجَمُوا

كَانَتْ بِحَيْثُ عَلَيْها قَوْمُها ضَرَبَتْ                         سُرادِقاً أَرْضُهُ مِنْ عِزِّهِمْ حَرَمُ

يَكَادُ مِنْ هَيْبَةٍ أنْ لا يَطُوفَ بِهِ                            حَتَّى المَلائِكُ لَوْلا أَنَّهُمْ خَدَمُ

فَغُودِرَتْ بَيْنَ أَيْدِي القَوْمِ حَاسِرَةً                          تُسْبَى وَلَيْسَ مَنْ فِيهِ تَعْتَصِمُ

نَعَمْ لَوَتْ جِيدَها بِالعَتْبِ هَاتِفَةً                             قَوْمَها وَحَشاها مِلؤُهُ ضَرَمُ


47


شعبي:

من گال بالله ننسبي ويحدي ابظعنَّه                      زجر وخوّله والشمر من عگب أهلنه

هاي الهظيمة واحنه سيد الكون جدّنا                    اومنّه الزكيه فاطمة الخادمها جبريل

الله يا هاي المصيبة الموعله البال                       عگب الخدر تالي يساره فوگ الجمال

والحرم عالوليان تبكي ابدمع همّال                       حقها مشت عنهم اوخلَّتهم مگاتيل

واشحالها التمشي او تعوف اجسوم أهلها               صرعى عرايا ابلا دفن والدم غسلها

واعلى النهر مطروح ذاك اللي كفلها                     وحسين ما خلّت صلح بين سالم الخيل

أبوذيّة:

زجر كل ساع يزجرني وأنا صيح                        أبد ما شفت راحم وأنا صيح

لون حاضر يخوي وأنا صيح                            أبد ما كان جسر واحد عليّه


48


ورد عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية الشريفة، وهو يزور أنصار الحسين وأصحابه الشهداء معه:

"السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوَّأكم الله مبوّأ الأبرار، أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومَهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحقّ غير بطاء، وأنتم لنا فرطاء، ونحن لكم خلطاء، في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

هؤلاء الصفوة من أولياء الله الذي لم يسبقهم سابق ولم يلحق بهم لاحق اختارهم الله لنصرة دينه، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، معروفون بأسمائهم من قبل شهودهم، كما يقول ابن عبّاس في حقّ أصحاب الحسين، وكما يعبّر عنهم محمّد ابن الحنفيّة (رض): "وإنَّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم"، ويكفيهم فخراً شهادة الإمام الحسين بحقّهم عندما قال: ".. إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي"... وقد ذكرهم أمير المؤمنين عليه السلام حين مرَّ بكربلاء وصار بمصارع الشهداء: "... مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم". بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادتهم وفوزهم بأعلى الدرجات، حين ذكر لولده الحسين عليه السلام مصرعه في كربلاء: "... ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ


49


الحديد، وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً...".

ولذلك وصفهم الإمام الحسين عليه السلام لأخته الحوراء زينب عليها السلام كما قال: "أما والله لقد نهرتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني، استئناس الطفل بلبن أمّه"، وعندما أذن لهم سيّد الشهداء عليه السلام بالانصراف والانطلاق وجعلهم في حلٍّ منه، كان الواحد منهم يقول: قبّح الله العيش بعدك... أما والله! لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً...

ولذلك استحقّوا أن يكشف الحسين عليه السلام عن أبصارهم ليلة عاشوراء، ويريهم منازلهم في الجنّة، ويبيتوا معه تلك الليلة في العبادة ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكعٍ وساجد وقائمٍ وقاعد... ومن أصحاب الحسين عليه السلام الذين كانت لهم تلك الكرامة ونالوا أعلى الرتب، وأدركوا سيّد الشهداء في اليوم العاشر من المحرّم ولم يتأخّروا عن موعد شهادتهم المباركة ونصرتهم المؤيّدة:

سعيد ابن مرّة التميميّ: كان من أهل البصرة حيث كاتب الحسين أشرافها ورؤسائها ودعاهم إلى نصرته فأجابه من أجابه


50


ولكن الكثيرين منهم فاتتهم نصرة الحسين عليه السلام والشهادة بين يديه، حيث خرجوا من البصرة متّجهين إلى الحسين عليه السلام فوافاهم خبر مقتله في بعض الطريق، فرجعوا خائبين من نصرته، وأمّا الّذين سُعِدوا ورُزِقوا الشهادة منهم فهم ستّة - كما ذكرهم أهل المقاتل- أوّلهم عبدالله الفقعسيّ وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السنّ، وولده أربعة منهم، والسادس هو سعيد ابن مرّة التميميّ. فهذا الرجل سعيد كان شابّاً -حديث الزواج- له من العمر تسعة عشر سنة. لمّا سمع بأنّ الحسين عليه السلام يستنصر أشراف أهل البصرة في كتبه، أقبل إلى أمِّه في صبيحة عرسه ولم يلتفت إلى فراشه الجديد وزينة عرسه وما حوله ممّا يعلّقه بالدنيا، توجّه مباشرة إلى أمّه صائحاً: أمَّاه عليَّ بلامة حربي وفرسي، فقالت له: ما لك تنادي يا نور عيني، وما تصنع بها؟ قال: أمَّاه قد ضاق صدري وأريد أن أمضي إلى خارج البساتين، فقالت له: ولدي إنطلق إلى دارك وزوجتك ولاطفها، فقال: يا أمّاه لا يسعني ذلك، وبينما هما كذلك إذ أقبلت زوجته وقالت له: إلى أين تريد يا ابن العمّ؟ فقال لها: أنا ماضٍ إلى من هو خيرٌ منّي ومنك، فقالت: ومن هو خيرٌ منك ومنّي؟ فقال لها: سيّدي ومولاي الحسين ابن عليّ  عليهما السلام (الحسين يطلب النصرة وأنا أقعد عن نصرته؟!) سار قليلاً، عندها بكت أمّه وكذلك زوجته، وانطلق سعيد حاملاً


51


لامة حربه متوجّهاً إلى فرسه، سار قليلاً، وإذا بأمِّه تناديه: بني سعيد قف لي هنيئة فوقف سعيد، فجاءت إليه أمّه، قالت: ولدي جزاك الله عن الحسين خيراً (لكن عندي وصيّة إليك، ما هي يا أمّاه) بني حملتُك في بطني تسعة أشهر (سهرت عليك الليالي وفي تربيتك) فقال: بلى يا أمّاه، قالت: بني فاذكرني عند فاطمة الزهراء يوم القيامة.. بني إذا أدركت سيّد شباب أهل الجنّة أقرئه عنّي السلام، وقل له: فليشفع لي يوم القيامة.

أوصيك يبني او يا بعد عيني بوصيّه                    خلّها عله بالك من تصل لبن الزجية
 
گله أمي اتسلِّم عليك اهواي هيّه                         واتگول أريد هناك ابتشفعلي الحسين

ناداها يمّه او يا لسهرتي الليل برباي                   آخذ سلامك لو رحت لحسين ويّاي

گالتله يبني او ما أكلفك غير بس هاي                  أدّي وصيتي يا عزيز الروح والعين

فقال لها: يا أمّاه وأنا أوصيكِ بوصيّه؟ ما هي نور عيني؟ قال: إذا رأيتِ شابّاً لم يتهنَّأ بشبابه وعريساً لم يتهنَّأ بعرسه اذكري عرسي وشبابي.

گلها وصيتك راح اخبر احسين بيها                     اوعندي وصيّه وارد أكلفنك عليها


52


لو شفتي مثلي شاب وامّه اعليه بّكيها                  ذكري شبابي او عرسي يمّه او موش تنسي

والعيد لو بيّن او هل مصباح يومه                      والشاب لو شفتي لبس زينة اهدومه

هم اذكريني وشبِّهي ارسومي ارسومه                  وابكي الشبابي يمّه من تردين تبكين


انطلق سعيد خارجاً من البصرة يجدّ السير في الليل والنهار واستخبر ببعض الطرق أنّ الحسين قد نزل كربلاء، فتوجّه مسرعاً حتّى وصل أرض كربلاء يوم عاشوراء بعد الظهر، نظر إلى جهةٍ وإذا جيوش وعساكر وسواد متراكم، ونظر إلى جهةٍ ثانية وإذا خيام قليلة ليس حولها رجال ولا أعوان، قال: أظنّ أنَّ هذه الخيام القليلة هي خيام الحسين، ولكن يخاف أن يُقبض عليه، فدنا من مخيّم الحسين قليلاً قليلاً حتّى وقف بالقرب منها، وصاح بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل البيوت، فخرجت العقيلة زينب سلام الله عليها فقالت: وعليك السلام من أنت أيُّها المسلِّم علينا في هذا اليوم؟ قال: أوّلاً أمة الله أخبريني من أنتِ؟ فعرّفته عن نفسها، السلام عليكِ يا زينب الكبرى.

أنا زينب ليحكون عني                        سليت المصايب ما سلمني


53


نِزْلَن على عيوني وعِمَنّي                     ماني تمرمرت من صغر سني

قال: سيّدتي أنا سعيد ابن مرّة جئت من البصرة لنصرة سيّدي ومولاي الإمام الحسين عليه السلام، قالت عليها السلام: يا سعيد، إن كنت كذلك فذاك سيّدك الإمام الحسين وحيداً فريداً يطلب الناصر. فأقبل سعيد إلى الميدان وهو ينادي لبّيك لبّيك سيّدي أبا عبدالله، لبّيك أبا عبدالله، لمّا رآه الحسين عليه السلام قال: يا سعيد مرحباً بك، ما قالت لك أمّك؟

گالتلي أمي او تهمل العين                    يوليدي حين التوصل احسين

بلغه سلامي ابن الطيّبين                      وقبّل أقدامه وقبّل الكفّين

اوسلّملي يبني اعله الخواتين                اوذبّ دونه اوحامي الصواوين

قال: سيّدي، أمّي تقرؤك السلام. فقال: عليك وعليها السلام، وبشَّره أنَّ أمّه في الجنّة (هنيئاً لهم)، ثمّ قال له الحسين: (يا سعيد) خذ سيفك ودافع عن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

آه وصيت بينا قبل التنامون                     وقبلن على الغبرة تنامون


54


أنا منين اجيتني كربلا منين                     لا عبّاس يبرالي ولا احسين

لذلك سعيد عاد وسلّم على بنات الرسالة، رجع فحمل على القوم وصار يقاتل حتّى قتل جمعاً كثيراً، حتّى أردوه صريعاً.

ويلي قضوا حق لعليهم دون الخيام              ولا خلوا خوات حسين تنضام

لما طاحوا تفايض منهم الهام                    تهاووا مثل مهوى النجم من خرّ


ولمّا قُتِل سعيد مشى لمصرعه الحسين، فجلس عنده، وأخذ رأسه وضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه قائلاً: أنت سعيد كما سمّتك أمّك سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة.

من طاح اعتناله وقعد يمّه                        خذه راسه ابحضنه ومسح دمّه

دنيه او آخره ايگله أبو اليمه                    سعيد وبالإسم ما خابت امك

يحسّ دمّه اويگله ابن الزجية                    سعيد السمتك ما خطت هيّه

عفت عرسك اولاگيت المنيّه                      واعله حنّت اجفوفك سال دمك


55


وكان الإمام الحسين هكذا كلّما استشهد واحد من الأصحاب يقف عند مصرعه ويؤبّنه بكلمة أو بآية من القرآن، ولكن من الذي وقف على الحسين عليه السلام عندما سقط عن ظهر جواده إلى الأرض؟ نعم وقفت عليه الأعداء وهي تنوشه (ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالسهام، ورضخاً بالحجارة والخشبة).

قَتَلُوهُ يَوْمَ الطَّفِّ طَعْناً بِالقَنا                         وَبِكُلِّ أَبْيَضَ صَارِمٍ وَمُهَنَّدِ

لَطَالَما نَادَاهُم بِكَلَامِهِ                                 جَدِّي النَّبيُّ خَصِيمُكُمْ فِي المَشْهَدِ

ساعد الله قلب الحوراء زينب في تلك الساعة، لم ترَ لأخيها شخصاً ولم تسمع له صوتاً، وهي ترى الكون قد تغيّر ولم تعلم ما جرى على أخيها الحسين عليه السلام، وبينما هي في تلك الحال وإذا بالجواد قد أقبل يصهل صهيلاً عالياً وقد خضب ناصيته بدم الحسين عليه السلام

(آه) يا مهر احسين ما ظنيت لينه                   تجي واتعوف بالحومة ولينه

يگلها اصواب قلبه ما يعينه                         واجيتك من شفت ما بيه قومه

وَراحَ إلى الفُسْطاطِ يَنْعَى جَوَادُه                     فَفَرَّتْ بَناتُ الوَحيِ شَابِكةَ العَشْرِ

فَتِلْكَ تُنادِي وَاحِمَايَ وَهَذِهِ                           رَجَايَ وَهَذِي لا تَفِيقُ مِنَ الذُّعْرِ


56