الليلة الثالثة: مجلس بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام

الدَّمْعُ مِنِّي لِسِبْطِ المُصْطَفَى هَمَعَا                     وَالقَلْبُ مِنِّي بِنَارِ الحُزْنِ قَدْ لَسَعا

لَمْ أَنْسَهُ مُذْ أَتَى أَرْضَ الطُّفُوفِ                       وَقَدْ حَطَّ الخِيَامَ وَحَرْبٌ جَيْشُها اجْتَمَعا

دَعَا بِصَحْبٍ كِرامٍ كَالأُسودِ إِذا                         قَامَ الهِيَاجُ وَثَارَ النَّقْعُ وَارْتَفَعا

تَرَاهُمُ فِي الوَغَى مُسْتَبْشِرينَ بِها                      وَكُلُّ فَرْدٍ بِمَوْتِ العِزِّ قَدْ طَمِعا

فَمُذْ دَعَاهُمْ إِلَهُ العَرْشِ خَالِقُهُمْ                        هَوَوْا عَلَى التُّرْبِ إِذْ دَاعِي القَضاءِ دَعا

وَظَلَّ سِبْطُ رَسولِ اللهِ بَعْدَهُمُ                          فَرْداً وَحِيداً وَمِنْهُ الدَّمْعُ قَدْ هَمَعا

فَشَدَّ فِي القَوْمِ يِحْمِي عِنْ عَقَائِلِهِ                     كَأَنَّهُ حَيْدَرُ الكَرَّارُ قَدْ طَلَعا

حتّى أُصِيبَ بِسَهْمٍ فِي حُشاشَتِهِ                      أَصَابَ قَلْبَ عَلِيٍّ وَالنَبيِّ مَعا

فَارْتَجَّتِ الأَرْضُ والسَّبْعُ الطِّبَاقُ بَكَتْ                وَالعَرْشُ قَدْ مَادَ والرُّوحُ الأَمِينُ نَعَى

لَهْفِي عَلَى زَيْنَبٍ قَدْ عَايَنَتْهُ عَلَى                     وَجْهِ الصَّعِيدِ قَتيلاً بِالعَرَى صُرِعا


21


الجِسْمُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّعِيدِ لُقىً               وَرَأْسُهُ فَوْقَ عَالِي الرُّمْحِ قَدْ رُفِعا

وَبَيْنَها حُجَّةُ الجَبَّارِ مُضْطَهَداً                    بِالقَيْدِ بَاكٍ فَدَيْتُ البَاكِيَ الوَجِعا

لَمْ أَنْسَهُ نَاظِراً رَأْسَ الشهيدِ عَلَى                رَأسِ القَناةِ وَدَمْعُ العَيْنِ قَدْ هَمَعا

شعبي:

يا عين ابكي وسحّي الدمع غدران             على المذبوح بأرض الطف عطشان

ابكي وسحي الدمع يا عين                     على أهل المجد سبعين واثنين

آه لنوحن وگضي العمر بالنوح                 واعمي عيوني واتلف الروح

اشلون الصبر وحسين مذبوح

أبوذيّه:

بقلبي مأتك يحسين ينصاب                   وذكرك من يمر الدمع ينصاب

گلبي دون گلبك ريت ينصاب                 وجسمي دون جسمك عالوطيّه


22


عن إمامنا الرضا عليه السلام: من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكَّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

وعنه عليه السلام: إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.

ثمّ قال عليه السلام: كان أبي صلوات الله عليه (يعني الإمام الكاظم عليه السلام ) إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله عليه.

ونحن في هذه المجالس نواسي أهل البيت عليهم السلام بحزننا وبكائنا وعزائنا، ونجتمع كما أمرونا وكما كانوا يجتمعون للعزاء على سيّد الشهداء عليه السلام..


23


نواسي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والإمام الحسن عليهم السلام..

نواسي إمامنا زين العابدين عليه السلام الذي بكى على أبيه الحسين بقيّة عمره الشريف بعد مصاب كربلاء..

لم يقدّم له طعام أو شراب إلّا بلّه بدموع عينيه ويقول: كيف آكل وكيف أشرب؟ وقد قتل أبي جائعاً وعطشاناً!!

وكان عليه السلام إذا أخذ إناءً ليشرب الماء بكى حتّى يمزجها بدموعه، فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش..

لذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الإمام زين العابدين أحد البكّائين الخمسة في التاريخ (آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمّد وعليّ بن الحسين عليهم السلام )، فقد بكى الإمام عليه السلام بقيّة حياته بعد واقعة كربلاء، وما وضع طعام إلّا بكى حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك العبرة..

يسأله أحد الموالين: يا بن رسول الله أما آن لحزنك أن


24

 

ينقضي؟ فقال له ويحك! إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً فغيَّب الله عنه واحداً منهم فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟!

يَا سَيِّدَ العُبَّادِ رِزْؤُكَ فَادِحٌ                     جَلَلٌ تَكَادُ لَهُ الجِبَالُ تَصَدَّعُ

فَأَبوكَ والأَهْلُونَ والأَنْصَارُ قَدْ                 أَمْسَوا وَهُمْ بِالطَّفِّ حَوْلَكَ صُرَّعُ


وكان عليه السلام كلّما اجتمع إليه جماعة، أو وفد من وفود الأقطار يردّد عليهم تلك المأساة، ويخرج إلى السوق أحياناً فإذا رأى جزّاراً يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول: هل سقيتها الماء؟ فيقول له: نعم يا بن رسول الله إنّا لا نذبح حيواناً حتّى نسقيه ولو قليلاً من الماء، فيبكي الإمام زين العابدين عليه السلام عند ذلك ويقول: لقد ذُبح أبو عبد الله عطشاناً!!

وَيْلُ الفُراتِ أَبادَ اللهُ غَامِرَهُ                     وَرَدَّ وَارِدَهُ بِالرَّغْمِ لَهْفانا

لَمْ يُطْفِِ حَرَّ غَليلِ السِّبْطِ بَارِدُهُ                 حتّى قَضَى فِي سَبيلِ اللهِ عَطْشانا

لَمْ يُذْبَحِ الكَبْشُ حتّى يُرْوَى مِنْ ظَمَأٍ            وَيُذْبَحُ ابنُ رسولِ اللهِ ظَمْآنا


25


وسمع ذات يوم رجلاً ينادي في السوق: أيَها النّاس ارحموني أنا رجل غريب، فتوجَه إليه الإمام عليه السلام وقال له: لو قدّر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بلا دفن؟ فقال الرجل: الله أكبر كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم وبين ظهرانيَّ أمّة مسلمة؟! فبكى الإمام زين العابدين وقال: وا أسفاه عليك يا أبتاه تبقى ثلاثة أيَّام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

كَأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ كَرْبَلا لَدَى                        عَيْنِي وَكُلَّ زَمَانٍ يَوْمُ عَاشُورا

لَهْفِي لِظَامٍ عَلَى شَاطِي الفُراتِ قَضَى           ظَمْآنَ يَرْنُو لِعَذْبِ المَاءِ مَقْرَورا

إِنْ يَبْقَ مُلْقىً بِلا دَفْنٍ فَإِنَّ لَهُ                    قَبْراً بِأَحْشاءِ مَنْ وَالاهُ مَحْفُورا

ولعلّ أكثر المصائب التي أثّرت في قلبه الشريف تلك التي يذكرها لأبي حمزة الثماليّ حيث دخل عليه يوماً فرآه حزيناً كئيباً على عادة الإمام فقال له: سيّدي، ما هذا البكاء؟ أما آن لحزنك أن ينقضي، إنّ القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة، فقال له الإمام عليه السلام: شكر الله سعيك يا أبا حمزة، كما ذكرت، إنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة، ولكن يا أبا حمزة هل سمعت أذناك أو رأت عيناك أنّ امرأة منّا أسرت أو هتكت قبل يوم عاشوراء؟! والله يا أبا حمزة ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وذكرت فرارهنّ في البيداء من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى


26


خباء، والمنادي ينادي أحرقوا خيام الظالمين..

وَحَائِراتٍ أَطَارَ القَوْمُ أَعْيُنَها                      رُعْباً غَدَاةَ عَلَيْها خِدْرَها هَجَمُوا

فَغُودِرَتْ بَيْنَ أَيْدِي القَوْمِ حَاسِرَةً                 تُسْبَى وَلَيْسَ تَرَى مَنْ فِيهِ تَعْتَصِمُ

شعبي:

گلبي يبو حمزة تراهو اتفطر اوذاب              مثل المصيبه اللي دهتني محّد انصاب

ذيك الاقمار اللي ابمنازلنه يزهرون               والليل كله من العبادة ما يهجعون

سبعة اوعشرة عاينتهم كلهم اغصون             فوگ الوطية امطرّحين ابحر الاتراب

ما نكّست راسي لجل ذيك الصناديد               ما قصّروا بالغاضرية زلزلوا البيد

نكّسه الراسي ادخول زينب مجلس ايزيد         حسرى او من نوح اليتامه راسها شاب

نعم يذكر الإمام السجّاد عليه السلام الشام ومصائبهم فيها، ويحدّث ابنه الباقر عليه السلام عند سؤاله عن حمل يزيد لهم وكيفيّة دخوله على يزيد لعنه الله، ونسوتنا خلفي على بغال (من غير سرج) والفارطة خلفنا وحولنا الرماح، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح،


27


حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت!!

ثمّ يقول عليه السلام: أوقفونا أوّلاً على باب من أبواب القصر ثلاث ساعات في طلب الإذن من يزيد، ثمّ أدخلونا عليه ونحن مربّطون بحبل واحد، وكان الحبل في عنقي وعنق عمّتي زينب وأمّ كلثوم وباقي النساء والبنات، وكلّما قصّرنا عن المشي ضربونا حتّى أدخلونا على يزيد..

قصد ظعن الحرم كوفان والشام               اوسوط الشمر منها المتن وشّام

ضمير العدو منه مات والشام                 بلا رحمة سباها الفاطمية

وَلَهْفِي لِزَيْنِ العَابِدينَ وَقَدْ سَرى              أَسِيراً عَلِيلاً لا يُفَكُّ لَهُ أَسْرُ

وآلُ رَسولِ اللهِ تُسْبَى نِساؤُهُمْ                 وَمِنْ حَوْلِهِنَّ السترُ يُهْتَكُ وَالخِدْرُ


28