الليلة السادسة

يا منفِقَ العمرِ فيما ليسَ يَنفعُه
وخُذْ لنفسِكَ زاداً لا نفادَ له
ولا تكُنْ لاقياً ربَّ العبادِ وقدْ
ولا تكنْ باكياً إلا على نفرٍ
لهْفِي لسبطِ رسولِ اللهِ منفرِدا
دعا أمَا مِنْ ناصرٍ في الله يَنْصُرُنا
وجاءَ نحوَ جُسومِ الصَّحبِ مُنحنيا
يا خيرَ صَحبٍ فَدَوا بالطفِ سيدَهم
خَلَّفْتموني وحيدا بين مَنْ نَكَثوا
هنالِكَ خَفَّتِ الأبدانُ قائلةً
مُرْنا نُطِعْ نَبْذُلِ الأرواحَ سيدَنا
وفيْتُمُ وقَضيتُم حقَّ سيدِكم

أَفِقْ فإنَّك كالماضينَ تَرتَحِلُ
إلى المعادِ ليومٍ فيه تَنتقِلُ
حَمَلْتَ وزراً ثقيلاً ليس يُحْتمَلُ
واسَوا حُسيناً وأرواحاً له بَذلُوا
يَرى أحبَّتَهُ في الطَّفِ قد قُتِلوا
هلْ مِنْ مُغيثٍ مُعينٍ نحوَنا يَصِلُ
يدعُوهُمُ ودموعُ العينِ تنهمِلُ
مِنَ الخُطوبِ وبالأرواحِ ما بَخِلوا
عَهْدَ الإلهِ وآلَ المصطفى خَذلوا
يابنَ الكِرامِ الأُلى بالحقِّ قد عُدِلوا
نادى ومُهجتُه بالحرِّ تَشتعِلُ
وإنني عن قريبٍ سوفَ أَرتحِلُ


63


(لحن الفراق)
يجري دمَعَه   والله مُو سهلَه المُصيبة
يجري دمَعَه   عاشِقِ مفارِقْ حبَيبَه
يجري دمَعَه   يلتِفِتْ صوبِ الغِريبه

يِقِلْها زِينب    راحَوَ اصَحابي ضَحايا
يقِلْها زِينب    عالنَّهَر ماتَوا ظِمايا
يقِلْهَا زينب    اتْجَهِّزي باكِر سِبايا

مالي ناصِرْ    يا ليوثِ الغاضرِيه
مالي ناصِرْ    صَرعْى كِلكُم عالوطِيَّه
مالي ناصِرْ    وحْدِي بالطف هالمِسيَّه

وينِ المْعِين   يِنصرِ حسينِ الغِريبْ
وين المْعِين   نافِع وهْلالِ وحبيب
وين المْعِين   اناديكُم هلْ مِن مُجيب

انه الغريبْ   وحدي بسوحِ الغاضريه
انه الغريبْ   احشِّمْكُم يَهلِ الحِمِيَّه
انه الغريبْ   من ينصِرِ ابنِ الزكيه

مَكْتوبِ الذبِحْ لَحسين مِنْصار(انولد)


64


ومِثلْ آلامَه مايِحصَل ومِنْصَار (ما صار)
إلك يَحسين عوَّانَه ومِنْصَار (منا انصار)
حِبيبِ يصيح ماتْهِمْنا المنيه

لما كان يومُ العاشرِ من المحرَّم، عبَّأَ عمرُ بنُ سعدٍ جيشَه لقتالِ الحسينِ عليه السلام، ثمّ صاحَ: يا دُرَيد، أدْنِ رايَتك، فأدْناها، فوقَفَ تحتَها وأخذَ سهماً ووضَعَهُ في كَبِدِ قوسِهِ، ورمَاهُ نحو معسكرِ الحسين، وقال: اِشهدُوا لي عندَ الأميرِ بأنّي أوّلُ مَنْ رَمى، فتَبِعهُ الجيشُ على ذلك، فلمْ يبقَ أحدٌ من أصحابِ الحسينِ إلّا وأصَابَهُ مِنْ تلكَ السهامِ شيءٌ، فقالَ الحسينُ لأصحابِه: قُوموا رحمَكُم الله، قوموا يا كرامُ إلى الموتِ الذي لا بدَّ مِنه، هذهِ السِهامُ رُسُلُ القومِ إليكم، فحَمَلَ أصحابُ الحسينِ حملةً واحدةً، واقتَتَلوا معَ القوم، فما انجلَتِ الغُبْرةُ إلّا عنْ خمسينَ صَريعاً في أرضِ المعركة.

وكان من بينِ أصحابِ الحسينِ عليه السلام الذين صُرعوا في هذه الحَمْلة، مسلمُ بنُ عَوْسَجة، فمَشَى إليه الحسينُ عليه السلام ومَعَهُ حبيبُ بنُ مُظاهر، فوقَفَ الحسينُ عندَ رأسِهِ وقرأ قوله تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا1, وكان بمسلمٍ


65


رمقٌ من الحياة، فقال له حبيب: لقدْ عزَّ عليَّ مصرعُكَ يا مُسلم، أَبشِرْ بالجنّة، فأجابه مسلم: بَشَّركَ اللهُ بخيرٍ يا أخي، فقال حبيب: لو لمْ أعلمْ أنَّي في الأثرِ لأَحببْتُ أن تُوصيَ إليَّ بكلِّ ما أهمَّكَ، فَفَتَحَ مسلمٌ عينيه وقال: يا حبيب، أُوصيك بهذا الغريبِ خيراً- وأشار بيدهِ إلى الإمامِ الحسينِ - قاتِلْ دونَه، ولا تُقصِّرْ عن نُصْرتِه...

وِصْلَتْ يبنْ ظاهر مِنيتي     ما وصِّيكْ بعيالي وبِيتي
            بالحسين واولادَه وصيتي
فقال حبيب: لأنُعمِنَّكَ عَيناً…

وللهِ درُّ الشاعر حينما يقول:
نَصَرُوهُ أَحْيَاءً وَعِنْدَ وَفَاتِهِمْ       يُوصِي بِنُصْرَتِهِ الشَّفِيقُ شَفِيقَا
أَوْصَى بْنُ عَوْسَجَةٍ حَبِيباً قَائِلاً    تُقَاتِلُ دُونَهُ حَتَّى الحِمَامِ

نعمْ، حبيبُ بنُ مظاهرٍ الأسدي، وقَفَ أمَام الحسينِ عليه السلام يبكي، قال له الحسينُ عليه السلام: يا حبيبُ، لعلَّك ذكرتَ الأهلَ والأوطان؟ أنتَ في حلٍّ من بيعتي...

فقال: ? واللهِ يا سيدي، إني استَبدَلتُ عن أهلي أهلاً.. وعن داري داراً...قال: إذاً مما بُكاؤك؟

قال حبيبُ: أبكي لحالِ زينَب وما يجري عليها بعدَك... ذلك مما أخبرني به رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم....

كانت مصائبُ زينبَ عليها السلام لا تفارقُ مخيِّلَتَهُ... يقولُ حبيبُ:


66


آهٍ لوجدِكِ يا زينبُ يومَ تُحمَلين على بعيرٍ ضَالِعٍ..وكأني برأسي هذا معلَّقٌ في عُنُق الفرس... ورأسِ أخيكِ على الرمحِ تَحُفُّ به رؤوسُ أصحابه وأهلُ بيته. لمَّا سمِعتْ زينب قالتْ: يا حبيبُ، لقد أخبرني بهذه المُصائبِ ابنُ أمي الحسين البارحة... وَوَدَدْتُ لو أني عمياءُ، ولا أرى هذه المصائب...

لسانُ حالِ حبيبٍ يناشدُ الحوراءَ زينبَ عليها السلام

عمِّي زينب   فدوه الِچ عُمري وحياتي
عمِّي زينب   خادمِچ وارضى بمماتي
عمِّي زينب   بالخِيَم مرتَاحه بَاتي
عمِّي زينب   انه واصْحابي فِداكُم
عمِّي زينب   مو شَهِمْ كِلْمَنْ نِساكم
عمِّي زينب   فوگْنَه يرفرِفْ لِواكم
جاوبتَّه        يا حبيبِ بنِ مُظاهر
جاوبتَّه        عمِّي يا خيرِ المُناصِر
جاوبتَّه       والدمِعْ عَلْوجْنَه هادِر
جاوبتَّه       شَكَرِ المعبود سَعيَك
جاوبتَّه       عمِّي انتَ وعزِمْ جَمعَك
جاوبتَّه       أمِّيِ الزهره تشفْعَك


67


وهكذا تجدُ غلاماً صغيراً عمرُهُ أحدَ عشر عاماً، نظرَتْ إليه أُمّه وقالت له: بنيَّ ما وقوفُك إلى جانبي؟ اذهبْ إلى الحربِ وبيِّضْ وجهي عند فاطمةَ الزهراء، ثمّ جاءتْ إليه وألبسَتْهُ لامةَ الحربِ، وأعطتْهُ السيفَ، وقالتْ له: امضِ إلى الحسين. جاء الغلامُ وسلَّم على الإمامِ، فردَّ عليه السلام، وقال الإمام: هذا غلامٌ قُتِلَ أَبوه في الحملةِ الأولى، ولعلَّ أمَّهُ لا ترغَبُ بقتالِ ولدِها. لمَّا سمِعَ الغلامُ ذلك قال: لا يا سيّدي، إنَّ أمّيَ هي التي بعثتْني إليك، فقال: بُنيّ، عُد إليها، لعلَّها تأنسُ بك. عاد الغلامُ إلى أمِّه، فلما رأتْهُ أمُّه، قالت: بُنيّ أَراك رجعت، قال: بلى أمَّاه، قالت: لعلّ الحسينَ قد استصغرَ سِنَّك. أقبلت به إلى الإمامِ الحسين، سلَّمتْ عليه، قالت: سيّدي أبَا عبد الله، أَفَتُثْكَلُ أمُّك الزهراءُ بوَلَدِها ولا أُثكَلُ بولدي! سيّدي، دعْ ولدي يقاتِلُ بين يديك. أذِنَ له الإمام، بَرَزَ هذا الغلامُ وهو ينشد:
أَمِيرِي حُسَيْنٌ وَنِعْمَ الأَمِيرِ     سُرُورُ فُؤَادِ البَشِيرِ النَّذِيرِ
عَلِيٌّ وَفَاطِمَةٌ وَالِدَاهُ            فَهَلْ تَعْلَمُونَ لَهُ مِنْ نَظِيرِ؟!

وجَدَّ بالقتالِ إلى أن قُتِل، وإذا بأمِّهِ تركُضُ تريدُ القتال، فقال الإمامُ الحسينُ لولده الأكبر: بُنيَ عَليّ، امضِ إلى الغلام، وأنا آتٍ بالأمّ، فتقدَّمَ الإمامُ إليها: أَمةَ اللهِ ارجعي إلى الخيمة، ولكنَّ عليَّ الأكبر جاءَ إلى الغلامِ، ورأى شفتَيه تتحرَّكانِ، وإذا بالغلامِ يقول: سيّدي، حوِّلوا رحْلَ أمّي إلى رحالِكُم، إنّها صارت غريبةً وحيدة.


68


والله يَشُبَّان بالله لا تِوِنُّون      تِصَدْعون گَلبي مِنْ تِوِّنون
شُبَّان مِثْلِ الورِدْ يِزْهون      يَوَسْفَه وعلى الغَبْره يِنامُون

وهكذا تجدُ وهبَ النصرانيّ، وقدْ تعلَّقتْ به زوجتُه، وهي تسأله: إلى أينَ تمضي يا وهبُ، وتتركني هنا؟ يقول لها: ارجعي، فتقول له أمُّه: لا تلتفِتْ إليها يا وهبٌ، اذهبْ وبيِّضْ وجهي عند فاطمةَ الزهراءَ. يتوجَّهُ وهبٌ ناحيةَ الإمام الحسين، وإذا بصوتٍ يصدَحُ من خلفِهِ يناديه: يا وهبُ، قاتِلْ دون الطيّبين، فداكَ أبي وأمِّي. نَظرَ وهب وإذا بزوجتِهِ تركضُ خلفَهُ، عادَ إليها وهو يقول: أمةَ اللهِ، قبلَ قليلٍ كُنتِ تمنعينَني عن القِتالِ، وأراكِ الآنَ تَحثِّينني، ما الذي جَرى؟ قالت: يا وهب، لا تلُمْني، إنَّ واعيةَ الحسينِ كَسَرتْ قلبي، فقال لها: ماذا سَمعتِهِ يقول؟ قالتْ: رأيتُه جالساً ببابِ الخيمةِ ينادي: هل من ناصرٍ ينصرُنا لوجهِ الله؟ هل من معينٍ يعينُنا؟

يِگِلْها هالساعه كِنْتِ تِمنْعِيني       يَهَلْ الحُرَّه ولِفيتي تَشجْعيني
وصوتِكَ بالحرُبْ زيّد ونيني        وعلى الخدِّين سالتْ دَمعةِ العين
تِگِلَّه لا تلومْ الگلُب لو هَمّ          يحگّ لحسين تجري دموعنا دَم
والله ابو السجاد شِفْتَه بباب الْخيَم   ينادي ولا حِصَلَّه بكربلا امْعين

نادى وهب: سيِّدي أبا عبد الله، خذْ زوجتي إليك، أقبَلَ الإمامُ الحسينُ إليها وقال: أَمَةَ الله، كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا، ارجعي، قالت: سيّدي أخافُ أن يُقتلُ زوجي وأُسبَى من بعدِه، فقال لها الإمام: أَمَةَ


69


اللهِ، أَوَما ترضين أن يكونَ مصيرُك كمصيرِ زينبَ وعائلتي؟ قالت: سيّدي، أَوَتُسبى زينب؟! قال: بلى، مِن مجلسٍ إلى مجلسٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ...

أقولُ: سيِّدي أبَا عبدِ الله، أنتَ كُنْتَ تَرعى النساءَ والأراملَ وتهدِّئ من روعِهِنَّ، وتُسِلّي مصائبَهُنّ، ولكنْ سيِّدي، ما حالُ قلبِ أختِكَ الحوراءِ زينبَ عليها السلام وقد بَقيَتْ وحيدَةً، مكسورةَ القلب، باكيةَ العين. كأني بها تَشتكي مُصابَها:
إنْ صِحِتْ يا خُويَ يِضِرْبوني     وانْ صِحِتْ يا بوي يِشتموني
                ومْنِ الضَربْ يَخوي وِرْمَنِ مْتوني

قالت: أَخي أبا عبد الله، إلى منْ نَلتجئ، إلى مَنْ نَفْزَعُ مِنْ بعدِك؟ أخي حسين، ماتَ جدُّنا رسولُ الله ففزعنا إلى أبيك عليّ. مات أبونا عليّ ففزِعْنا إلى أخيك الحسن. ماتَ أخوك الحسنُ ففزعنا إليك. فإلى من نَفْزَعُ مِنْ بعدكِ يا أبا عبد الله؟

أَخِي إِنَّ قَلْبِيَ قَدْ تَفَطَّرَ لَوْعَةً     
حَبِيبِيَ كَلِّمْنِي بِحَقِّ مُحَمَّدٍ         
فَيَا لَيْتَ عُدْنَا فِي مَدِينَةِ جَدِّنَا     
حاكيني يخويه او رِدْ ليَ الرُّوح  
أظِنْ ما تِگْدَر امِنْ الجْروح      

وَعَيْنَيَّ مِن حُزْنِ الفِرَاقِ سَحَابُ
وَهَلْ فِي الشِّفَاهِ الدَّامِيَاتِ جَوَابُ
وَهَيْهَاتَ مَا لِلذَّاهِبِينَ مَآَبُ
امغمَّضْ ليش واعله الگاَعْ مَطروح
عِمَتْ عيني عليك اوبِلَتْ رُوحي


70


كُومَنْ يا بَناتِ حسين خَلْنا نْودِّع الوالي
ابْنُ امي واخويه اهْنا يودِّع عيلتَه كَبَالي
ياسِكْنة دَكُومي ويَاي جيبي بيدِجِ ?رقَيَّه
شْفافَه امْنِ العَطشْ جَفَّتْ ماكو قطرةٍ اميَّه
قَلْبَه هالْصِفَه مَليان جْروح وهظُم عالأحباب
صاروا كِلْهُم امْطاعين وابلحظة صِفَوا غِيَّاب
ألا منْ ينصرِ القرآن ألا من ينصر العِترة
صِرِتْ من اسْمَعَه اينادي قلبي صوتَهِ يِفِطْره
يَا غَائِباً عَنْ أَهلِهِ أَتَعُودُ أَمْ

حُزْني والسهرْ والنُّوح هذا اليومْ يِحْلالي
رايحْ للحرُبْ والـگـوم مابيهُم ولارحمة
أَبوجِنْ مِنِّي راحَ ايروح مامِنَّه بعد جَيَّه
شِفِتْ دمْعَة ابوسَط عينه رِيتْ اعيونْهُم تِعْمَه
على عباسْ والأكبر والقاسم وعالأَصحاب
راحْ لكل جَسَدْ مِنْهم يِمْسَح دمَّه ويشِمَّه
سْمِعْتَه ينادي بالميدان ولامِنْ ناصرِ يِنُصْره
ريت اكدَرْ اروح اويَاه وقاتِلْ وانذِبحْ يَمْهم
تَبْقَى إِلَى يَوْمِ المَعَادِ مُغَيَّبَا؟


71


هوامش
1- سورة الأحزاب، الآية 23.