مجلس الأربعين ورجوع السبايا إلى كربلاء

وَكَمْ ذَاتِ خِدرٍ سَجَّفَتْها حماتُها بِسُمْرِ قنىً خِطيَّةٍ وبِلُمَّعِ
لقد نَهَبَتْ كَفُّ المصابِ فُؤادَها وأيدي عِداها كلَّ بُردٍ وبُرقعِ
فلم تستطِعْ عن ناظريها تستُّراً بغيرِ أكفٍّ قاصراتٍ وأذرعِ
ولمّا رأتهُ بالعراء مُجَدَّلاً عفيراً على الرمضاءِ غيرَ مشيَّعِ
دَنَتْ منهُ والأرزاءُ تَمضَغُ قَلبَها وحنَّتْ حنين الوالِهِ المتَفَجِّعِ
تقولُ وظِفرُ الوجدِ يُدمي فُؤادَها عليَّ عزيزٌ أن أراكَ مُوَدِّعي
عليَّ عزيزٌ أن تموتَ على ظَمىً وتشربُ في كأسٍ من الحتفِ مُترَعِ
أخِي إنَّ شمراً سامَني بَعدَكَ الأَذَى وأَركَبَني مِن فَوقِ أدبُرِ أضلعِ

82


أنعِمْ جَوابَاً يا حسينُ أَمَا تَرَى شمرَ الخنا بالسوطِ كسَّر أضلُعي
فأجَابَ زَينبَ وهو يفحصُ في الثرى قُضِيَ القَضاءُ بِما جَرَى فاسترجِعِي
وَتَكَفَّلي حَالَ اليَتَامَى وانظُري ما كُنتُ أصنَعُ في حماهُم فاصنَعِي1

 

تگله يحسين توصيني بالايتام حرمه وطحت ما بين ظلاّم
ترضه يبو الشيمه يضرغام خواتك يسارى اتروح للشام
خويه يحسين والله حيّرتني حرمة ابجريره كلّفتني

وما بين عدوانك عفتني

التمهيد للمصيبة (گـوريز):

يقول الإمام الصادق عليه السلام: زُرِ الحسين جائعاً عَطِشاً شعثاً مغبّراً, فإنّه قُتِلَ جائعاً عطشاناً، ومن هنا فإنَّ الإمام زين العابدين عليه السلام كلّما نظر إلى طعام أو شراب يبكي ويقول: كيف آكل وقد قُتِلَ والدي الحسين جائعاً؟ وكيف أشرب وقد قُتِلَ أبي عطشاناً؟
ولعلّ أوّل من زار الحسين عليه السلام هو جابر بن عبد الله الأنصاريّ, وكان يولي الحسين محبّةً خاصّة, حتى عرف بحبيب الحسين عليه السلام, وكان قد فقد بصره, ويروى أنّه رأى رؤيا قبل خروجه إلى كربلا, نام ليلته فرأى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المنام وهو أشعث


83


مغبّر مكشوف الرأس، فقال: ما لي أراك يا رسول الله أشعث؟ فقال: يا جابر الآن رجعت من دفن ولدي الحسين، ثمّ تجهّز جابر للمسير إلى كربلاء، فجاء ومعه عطيّة وغلامه حتّى وافى كربلاء.
عن عطيّة العوفيّ قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ زائراً قبر الحسين عليه السلام، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات, فاغتسل ثمّ اتّزر بإزار وارتدى بآخر. ثمّ فتح صرّة فيها سُعدٌ2 فنثرها على بدنه, ثمّ لم يخطو خطوة إلّا ذكر الله تعالى, حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه..

المصيبة:

فألمستُهُ فخرّ على القبر مغشيّاً عليه, فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال: يا حسين ثلاثاً ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه.

الله يا جسم الربه إبحضن الزكيه وابحضن طه المصطفى أوحيدر وصيّه
تالي الجسم هذا تگطْعه اسيوف أُميّه وابنات حيدر تنسبي أوتمشي ويّالجناب

ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب, وقد شخبت أوداجك على أثباجك, وفرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين, وابن سيّد المؤمنين, وابن فاطمة سيّدة النساء، وما لك لا تكون هكذا
 


84


وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين, وربّيت في حجر المتّقين, ورضعت من ثدي الإيمان, وفطمت بالإسلام, فطبت حيّاً وطبت ميّتاً, غير أنّ قلوبَ المؤمنين غير طَيّبةٍ بفراقك, ولا شاكّةٍ في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.
ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطيّة:
فقلت له يا جابر فكيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً, ولم نضرب بسيف والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم وأرملت أزواجهم؟ فقال (لي): يا عطيّة سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: "من أحبّ قوماً حُشر معهم, ومن أحبّ عمل قوم أُشرك في عملهم".
ويروى لمّا رجع السبايا من الشام إلى المدينة توجّهت زينب عليها السلام إلى الإمام زين العابدين عليه السلام: عمّه مُرِ الحادي أن يعرّج بنا إلى كربلاء لنجدّد عهداً بأبيك وباقي أعمامك. فزينب عليها السلام منذ أربعين يوماً غائبة وشوقها إلى الحسينعليه السلام يحدوها للقائه لتبثّه شكواها ممّا جرى لها في السبي.
كأنّي بها توجّهت نحو حادي الإبل:

بالله عليك مر بينا يحادي الابل مر بحسين نشكيله الهظم والذل

85


ذل وهظم نشكيله وفرقه البين دلاها العليل ويهلّ دمع العين

عمّه إن كنت تسألين عن دُور إخوتك فهذه ديارهم أضحت قبوراً, تضمّ أجساداً مبضّعة وأشلاءً مقطّعة, وهذا قبر الحسين أبي يا عمّه..
 

يا عمة الدار هذي وذاك قبر حسين وهاي قبور اخوتك والاصحاب الكل
من سمعته ونّت والدمع مدرار طبت كربلا والقلب يجدح نار
تگل للدار أسمع سؤال زينب للدار
وين اهلك غدو يا دار دليني بيا وادي بيا منزل
بيا وادي بيا منزل غدوا عنك خنت الضيف ما هذا الرجا منك

عمّن تسألين يا زينب؟

صاحت عن احسين عن عباس انشدنچ يوعن علي وجاسم والعيون تهلْ

قال عطيّة: فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام، فقلت: يا جابر هذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقال جابر لعبده:
انطلق إلى هذا السواد وأتنا بخبره، قال فمضى العبد، فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين عليه السلام قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر


86


يمشي حافي القدمين مكشوف الرأس إلى أن دنا من زين العابدين عليه السلام فقال الإمام عليه السلام: "أنت جابر؟" فقال: نعم يا بن رسول الله، فقال: "يا جابر ها هنا والله قُتلت رجالنا, وذُبحت أطفالنا, وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا".

يا جابر مات بوي حسين ظامي بشط العلقمي والماي طامي
ولا واحد لفى من أهلي وعمامي بس الخيل حول الخيم تفتر

أمّا زينب عليها السلام كأنّي بها:

يَا نَازِلِينَ بِكَربَلا هَلْ عِندَكُم خَبَرٌ بِقَتلانا وَمَا أَعلَامُها
مَا حَالُ جُثَّةِ مَيتٍ في أرضِكُم بَقِيَتْ ثَلاثاً لا يُزارُ مَقَامُها

ويروى أنّه لمّا دنا منها الإمام عليه السلام قالت: خذ بيدي فلقد غشي على بصري أصبحت لا أرى، دلّني على قبر أخي، أخذ السجاد عليه السلام بيدها، أقبل بها إلى قبر الحسين عليه السلام وَضَعَ يديها على القبر صرخت الحوراء عليها السلام واحسيّناه، واحسيّناه.
أخي حسين هل غسّلوك أم كفّنوك أم بغير كفنٍ دفنوك.. وجعلت تبثّه شكواها

أنا ضعت وتحيّرت يحسين بعداك وتمنيت الفنا بعد يا خوي بعداك
والله ما ريد العمر يحسين بعداك عمت عيني ولا شوفك عالوطيه

أدارت العائلة على قبر الحسين عليه السلام يلطمون واحسيّناه


87


وامصيبتاه، هذا وزينب لسان حالها:

تنادي لو ينكشف يا حسين قبرك أشگ اللحد وتمدد بجنبك
ريت عمري قبل عمرك وإنت اللي تكفني يا لحسين

واجتمعت النّساء على الإمام السجّاد عليه السلام كلٌّ تسأله عن قبر فقيدها. فمنهنّ الرباب أمّ عبد الله أقبلت إليه والثكل بادٍ عليها منادية: يا بن الحسين أين قبر ولدي الرضيع؟ دلّني عليه، فأقبل بها إلى قبر أبيه الحسين عليه السلام وعيناه تمطران دموعاً وقال: ها هنا دفنت ولدك وأشار إلى جانب صدر الحسين، فانكبّت على القبر الشريف.
وكأنّي بها تقول مخاطبة الحسين عليه السلام في قبره:

رد لهفتي يا لتسمع انداي أو فكّ الگبر بحسين ليّه
خافن أَوليدي ابنومته هاي تحت الترب شايف أذيّه
درّت عله اوليدي ثداياي أو هوّه تحت هاي الوطيّة

ثمّ التفتت زينب عليها السلام إلى النساء:
 

نادت يا الحرم قومن مشنَّه لعند لي تكفلنا من أهلنا
نريده يقوم ويردنا لوطنا ما هو لي جابنا وبينا تكفل

أقبلت الحوراء مع النساء إلى قبر أبي الفضل عليه السلام جلست


88


عنده نادت عبّاس:
 

والله نادت يا خوي يا عزنا وقمرنا هاي المحامل قوم ردنا

لعند المدينة وطن جدنا

أَتُرَى يَعودُ لنا الزمانُ بِقُربِكُم هَيهاتَ مَا لِلقُربِ مِن مِيعادِ

89


هوامش

1- القصيدة للشيخ محمّد حسين الحلّي رحمه الله.
2-نوع من العطر