المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

الهدف:
التعرّف إلى فلسفة الحجاب وآثاره الفرديّة والاجتماعيّة على المرأة والمجتمع.

تصدير الموضوع:

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا1.


175


تمهيد
إنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى المرأة حقوقاً ومزايا تنسجم مع دورها كأنثى (ابنة، أخت، زوجة) لم يعطها من قبله ولا من بعده تشريع أو نظام أيّاً كان هذا التشريع أو النظام. فمهما بلغت معرفة المخلوق فهي ناقصة أمام علم الخالق الذي جعل الرجل والمرأة من نفس واحدة وميّزهما بخصائص - لا تُعدّ نقصاً في جانب دون جانب - يترتّب عليها واجبات والتزامات ليست من باب المفاضلة ولكنّها من قبيل الشيء يتمم بعضه ويحتاج إليه، وفي ذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى لإعمار هذا الكون، وإذا كان هناك مجال للتفضيل فقد بينه الإسلام في القرآن الكريم في كثير من آياته.

1- معنى الحجاب

لغةً: حجب: الحِجابُ: السِّتْرُ. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ2.

الحجاب في الإسلام: حجاب المرأة في الإسلام يعني أنّه يجب على المرأة أن تستر بدنها عدا (الوجه والكفّين) عند وجود رجل أجنبيّ ينظر إليها، وتلحق به أن لا تظهر زينتها أمام الرجال الأجانب.

2- أدلّة الحجاب والستر

يجب على المرأة أن تمنع نظر الأجنبيّ إلى كلّ ما عدا الوجه والكفّين


176


من بدنها. وهناك أدلّة من الآيات الشريفة وأحاديث المعصومين عليهم السلام تدلّ على ذلك:

أ- قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ3.

إنّ كلمة "يغضّو" مشتقّة من "غض" من باب "ردّ"، وتعني في الأصل التنقيص، وتطلق غالباً على تخفيض الصوت وتقليل النظر. لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم. بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم. وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تامّ بحيث لا يعرف الإنسان طريقه بمجرّد مشاهدته امرأة ليست من محارمه، فالواجب عليه


177


أن لا يحدّق فيها، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض، ويصدق فيه القول أنّه غضّ من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيّلته.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يحدّد الشيء الذي يستوجب غضّ النظر عنه. (أي إنّه حذف متعلّق الفعل) ليكون دليلاً على عموميّته. أي غضّ النظر عن جميع الأشياء التي حرّم الله النظر إليها. ولكنّ سياق الكلام في هذه الآيات، وخاصّة في الآية التالية التي تتحدّث عن قضية الحجاب، يوضّح لنا جيداً أنّها تقصد النظر إلى النساء غير المحارم، ويؤكّد هذا المعنى سبب النزول الذي ذكرناه سابقاً.

ويتّضح لنا ممّا سبق أنّ مفهوم الآية ليس هو حرمة النظر الحادّ إلى النساء غير المحارم، ليتصوّر بعض الناس أنّ النظر الطبيعيّ إلى غير المحارم مسموح به، بل إنّ نظر الإنسان يمتّد إلى حيّز واسع ويشمل دائره واسعة، فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره، وألّا ينظر إليها، ويواصل السير بعين مفتوحة، وهذا هو مفهوم غضّ النظر4.

وهذه الآية الكريمة تتناول عدّةَ أمور:
- ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يغضّوا من أبصارهم، ومعنى الغضّ في اللغة: الخفض والنقصان من الطرف، وغضّ البصر يعني عدم التحديق والإمعان في الشيء.


178


- يجب على الرجال والنساء حفظ الفروج، فالمطلوب الاجتهاد في حفظ العفاف والطهر.

- يجب ستر الزينة، وهناك نوعان من الزينة، خفيّة وظاهرة، والخفيّة هي ما تكون مخفيّة تحت الثياب مستورة عن نظر الناظرين، كالعقد والقراط (الحلق) ولون الشعر والثياب المستورة التي فيها زينة. والظاهرة هي الوجه والكفّان، حيث سُئل الإمام الصادق عليه السلام عمّا تُظهرْ المرأة من زينتها؟ فقال عليه السلام: "الوجه والكفّين"5. وهذا يعني وجوب ستر البدن كلّه باستثناء الوجه والكفّين.

ثم يعقّب تعالى بعد ذلك بقوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ. والخُمر: جمع خمار، وهو ثوب تُغطّي به المرأة رأسها ورقبتها، والجيوب جمع جيب وهو من القميص موضع الشقّ الذي ينفتح على المنحر والصدر، ويقال: إنّ النساء في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كنّ يلبسن ثياباً مفتوحة الجيب، وكنّ يلقين الخُمر ويسدلنها خلف رؤوسهنّ فتظهر آذانهنّ وأقراطهنّ ورقابهنّ وشيء من نحورهنّ للناظرين، فأمرت الآية بضرب خمرهنّ على جيوبهنّ، أي يُلقين بما زاد من غطاء الرأس على صدورهنّ حتّى يسترن بذلك آذانهنّ وأقراطهنّ وصدورهنّ.


179


ب - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا6.

وفي هذه الآية أمر واضح بضرورة إسدال الجلابيب، فما معنى الجلابيب، وكيف يكون الإسدال؟

الجلباب: هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطّي جميع بدنها، ويطلق أيضاً على الخمار، والظاهر أنّه استعمل هنا بمعنى الخمار، فإسدالها: ستر الجيوب بها، فهي تشير إلى ما هو مذكور في الآية السابقة. وأضيف إليها هنا: ﴿
...ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ...﴾.

والمقصود: أن يعرفن بالستر والصلاح، فلا يتعرّض لهنَّ، لأنَّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها7.

3- شروط الحجاب والستر الشرعيّ

أ- أن يكون اللباس واسعاً فضفاضاً: أي غير ضيّق حتّى لا يصف شيئاً من جسمها أو يظهر أماكن الفتنة من الجسم.

ب- أن يكون مستوعباً لجميع البدن باستثناء الوجه والكفّين. قال تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾, ألّا يكون الحجاب زينة في نفسه لقوله تعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا


180


ظَهَرَ مِنْهَا﴾.

ج- أن لا يترتّب على اللباس بعض العناوين الفاسدة: كالتشبّه بالكفّار فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام - عن آبائه عليهم السلام -: "أوحى الله إلى نبيّ من الأنّبياء أنْ قُل لقومك: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تشاكلوا بما شاكل أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"8.

ويظهر من الرواية أنّ من تشبّه بقوم وتأثّر بهم بالقليل لم يأمن على نفسه الزيادة في هذا الأمر حتّى يكون منقاداً لكلّ ما يفعلونه أو يأتون به.

تشبّه الرجال بالنساء وبالعكس، عن الإمام الصادق عليه السلام - عن آبائه عليهم السلام -: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، وينهى المرأة عن أن تتشبّه بالرجال في لباسها"9.

ث- ألّا يكون لباس شهرة: وهو اللباس الّذي لا يتوقّع من الشخص أن يرتديه من أجل لونه أو كيفيّة خياطته أو من أجل كونه خلِقا أو غير ذلك، بحيث لو ارتداه على مرأى من الناس ومنظرهم لفت أنظارهم إلى نفسه وأشير إليه بالبنان10.

ولباس الشهرة في المصطلح الفقهيّ هو اللباس الّذي يثير


182


الاستهجان والاستقباح عند عامّة الناس في البلد وبتعبير آخر هو اللباس الّذي يعرّض صاحبه للتشهير والتشنيع وحديث الناس.

ج- ويشمل اللباس الّذي يتزيّا فيه الرجل بزي المرأة أو العكس، بحيث يصدق عليه تأنُّث الرجل واسترجال المرأة.

وهو محرّم حيث يعرّض صاحبه إلى الهتك والإذلال، حيث يحرم على المؤمن أن يهتك نفسه وأن يذلّها، ولكن إذا أصبح هذا الزيّ الجديد المتوافر على الشروط الشرعيّة زيّا مألوفاً لا يوجب التشهير والاستقباح والاستهجان خرج عن كونه "لباس شهرة" وخرج عن كونه محرّماً.

4- فلسفة الحجاب في الإسلام

إنّ الحجاب في الإسلام جزء من الأحكام التي ترتبط بنظرة الإسلام إلى المرأة والمجتمع، وبالتالي تشكّل هذه الأحكام مجتمعة رؤية الإسلام إلى المرأة وأدوارها المختلفة في الحياة والمجتمع. وللحجاب – كحكم خاص بالمرأة- بحدّ ذاته فلسفة خاصّة ترتبط بالمرأة والمجتمع، يمكن إيجازها، بالآتي:

أ- حفظ أخلاق المجتمع:

تمتاز كلّ المجتمعات بأنّها تلتزم بمجموعة من المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي يتربّى الفرد والمجتمع عليها، وتضمن سلامة المجتمع من الانحراف والتلوّث بالرذيلة والزنا وغيرها من الأمراض الفتّاكة والخطيرة التي تعود


183


بالغالب إلى سيطرة الشهوات على سلوك الكثير من الناس.

وقد وضع الإسلام في تشريعاته أساليب علاجية مباشرة ترتبط بإلزام الفرد بالسلوك المستقيم والسوي، والعمل الصالح في علاقته بالآخرة، حفظاً لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه من الانحراف الأخلاقي فيما يرتبط بالعلاقة بين الجنسين. والحجاب كتشريع يلزم المرأة بالتستر عن غير المحارم يأتي في هذا السياق ولتحقيق هذه الأهداف وغيرها.

ب- الحجاب يحمي المجتمع:

إنّ حماية المجتمع من الانحراف وانتشار الرذيلة، يكون بمعالجة أسبابه الكثيرة والتي يأتي على رأسها كثرة أسباب إثارة الشهوات وتنوّعها في هذا الزمان، وهو ما نراه بوضوح في ظاهرة السفور الفاضح عند العديد من النساء التي انتشرت في الكثير من المجتمعات الإسلامية، ولهذا فإنّ الالتزام بالحجاب والستر يقضي على ظاهرة السفور ويرفع الكثير من الأسباب والمثيرات التي تؤدّي إلى الانحراف، ويُساهم كثيراً في تحقيق هدف حماية المجتمع.

ج- تحقيق الاستقرار النفسي عند المرأة:

الحجاب يحمي المرأة من الاضطراب الذي تعيشه المرأة السافرة باستمرار، نتيجة انهماكها المستمرّ في أمر التبرّج وقلقها الدائم بشأن لباسها وزينتها ومظهرها وكيفيّة استقبال الناس لها، وماذا سيقولون عنها وعن "قصّة" شعرها و"الموديل" الذي اختارته، إنّ هذا الاهتمام سيضْعُفُ


184


ويخفُّ كثيراً بالنسبة للمرأة المحجّبة، لأنّ طبيعة الحجاب تخفّف عليها الكثير من الأعباء، دون أن نُنكر مشروعيّة أنْ تهتمّ المرأة المحجّبة بمظهرها وأناقتها، لكنّ هذا الاهتمام شيء، وذاك الانهماك لدى المرأة غير المحجّبة شيء آخر.

د- حماية الأسرة:

لا شكّ بأنّ المرأة (كزوجة وأمّ) هي أحد أعمدة بناء الأسرة وحفظها واستقرارها، وأي خللٍ أو انحراف في أحد هذه الأعمدة، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سقوط الأسرة وضياع أفرادها، ولهذا نجد الآخرين يسخّرون وسائلهم الإعلاميّة وإمكانياتهم لترويج ثقافاتهم المنحلّة، في سبيل إضعاف المجتمع الإسلامي، ويستخدمون لهذه الغاية أكثر العناوين حساسية وهي المرأة.

هـ حماية المرأة نفسها:

الحجاب يحقّق الأمن الأخلاقيّ والسلوكيّ في المجتمع، فهو حماية من إرسال النظر، وحماية للقلب من مرض جموح الشهوة، وكلّ هذه تتحقّق بأن تتحجّب المرأة المسلمة وأن تغطّي محاسنها ومواضع الفتنة فيها، وأن تبقى كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، لأنّ التبرّج والسفور يعقبه ذلك النظر المحرّم وقد يتلوه ارتكاب الفاحشة، بما فيها الاعتداء على المرأة نفسها، كما تشهد الكثير من الوقائع والدراسات التي توثِّق حالات الاعتداء على المرأة.


185


هوامش

1- سورة الأحزاب، الآية 59.
2- ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج1، ص 298، مادة حجب.
3- سورة النور، الآيتان 30 31.
4- الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج11، ص75.
5- الحميري القمي، قرب الاسناد، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم، 1413، ط1، ص82.
6- سورة الأحزاب، الآية 59.
7- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج22، ص186.
8- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1385 - 1966م، لا.ط، ج2، ص348.
9- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص118.
10- السيد الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، دار النبأ للنشر والتوزيع - الكويت، 1415 - 1995م، ط1، س282.