المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

الهدف:
بيان أهمّيّة الدور الكبير الذي يقوم به الأهل في تفعيل وتأثير العمل الجهادي.

تصدير الموضوع:

بيان جوانب التضحية والفداء في سيرة أبي الفضل العباس، ومقامه عند أهل البيت عليهم السلام.
أحقّ الناس أن يُبكَي عليه       فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخوه وابن والده علي أبو       الفضل المضرّج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء        وجادله على عطش بماء1.


141


تمهيد
أبو الفضل العباس بن الإمام عليّ عليه السلام نموذج رائع وفريد من أبناء الإمام عليّ بن أبي طالبعليه السلام، ولقد حاز أبو الفضل العبّاس قصب السبق في الفضائل ومكارم الأخلاق، فضلاً عن الشجاعة والعلم والإخلاص.

1- لمحة في سيرته العطرة
أ- نسبه:

هو من صميم الأسرة العلويّة، والدوحة الهاشميّة، فقد أخذ أبو الفضل العباس بأطراف رداء المجد من أبيه الإمام عليّ بن أبي طالب، ومن جهة الأمّ فهي السيدة فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية، وأبوها حزام من أعمدة الشرف عند العرب، في الجاهلية والإسلام2، وكانت ولادته في سنة (26 ه‍ـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان3.

ب- نشأته:

نشأ أبو الفضل العباس عليه السلام في ظلال أبيه، فغذّاه بعلومه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله، كما غرست أمّه السيدة فاطمة في نفسه، جميع صفات


142


الفضيلة والكمال، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.

ولازم أبو الفضل أخويه السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة، وأسس الآداب الرفيعة، وقد لازم بصورة خاصّة أخاه الإمام الحسين عليه السلام، فكان لا يفارقه في حلّه وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مثله الكريمة وسجاياه الحميدة، حتّى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتّجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص، وقدّمه على جميع أهل بيته لِمَا رأى منه من الودّ الصادق له حتّى فداه بنفسه.

ت- ألقابه

إنّ الألقاب التي تضفى على الشخص تحكي صفاته النفسيّة الحسنة، وقد أُضفيت على أبي الفضل عليه السلام عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسيّة الطيّبة، وما اتّصف به من مكارم الأخلاق منها:

- قمر بني هاشم:

كان العباس عليه السلام في روعة بهائه، وجميل صورته آية من آيات الجمال، ولذلك لقب بقمر بني هاشم4.


143


- السقاء:
وهو من أجلّ ألقابه، وأحبّها إليه، أمّا السبب في إمضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية الإمام الحسينعليه السلام، فإنّه لما عطش الإمام الحسين عليه السلام، وقد منعوه الماء، وأخذ العباس قربة ومضى نحو الماء، وجلب الماء للإمام عليه السلام5، وسمّي بذلك أيضاً لسقايته عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض ابن مرجانة الحصار على الماء، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

- بطل العلقمي:

أما العلقميّ فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس عليه السلام، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ، ويبلُغ ذلك النهر، وقد قام بذلك عدّة مرّات، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لقب ببطل العلقميّ، وهو القائل:
لا أرهب الموت إذ الموت رقى       حتى أواري في المصاليت لقا


144


نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا     إني أنا العباس أغدو بالسقا6.

- حامل اللواء:

ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) لواء الإمام الحسينعليه السلام، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه، وذلك لما تتوافر فيه من القابليات العسكريّة، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش7.

- كبش الكتيبة:

وهو من الألقاب الكريمة التي يختصّ بها القائد الأعلى في الجيش، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبيره، وقوّة بأسه، وقد أضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ عن معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل8.

- باب الحوائج:

وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً، وانتشاراً بين الناس، فقد آمنوا وأيقنوا أنّه


145


ما قصده ذو حاجة بِنيّة خالصة إلّا قضى الله حاجته، وما قصده مكروب إلّا كشف الله ما ألم به من محن الأيام، وكوارث الزمان.

2- مكانته ورفعة مقامه

إنّ لأبي الفضل العباس مكانة عظيمة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد أفصحوا عنها في العديد من الكلمات والزيارات المأثورة عنهم، وفيما يلي بعض هذه الكلمات المعبّرة عن تلك المكانة العظيمة، وهي:

أ- الإمام زين العابدين:

أمّا الإمام زين العابدين عليه السلام فهو من المؤسّسين للتقوى والفضيلة في الإسلام، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم - دوماً - على عمّه العباس ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان ممّا قاله في حقّه هذه الكلمات القيمة: "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه، فأبدله الله عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"9.

ب. الإمام الصادق:

كان الإمام الصادق عليه السلام هو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العباس، ويثني ثناء عاطراً


146


وندياً على مواقفه البطوليّة يوم الطفّ، وكان ممّا قاله في حقّه: "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأبلى بلاءً حسنا ومضى شهيداً"10، وفي كلمات الإمام الصادقعليه السلام مقامات عظيمة لأبي الفضل العباس، وهي:

- نَفاذ البصيرة:

أمّا نَفاذُ البصيرة، فإنّه مُنبعث من سداد الرأي، وأصالة الفكر، ولا يّتصف بها إلّا من صفت ذاته، وخلصت سريرته، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أيّ سلطان عليه، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل. فقد كان من نفاذ بصيرته.

- الصلابة في الإيمان:

والظاهرة الأخرى من صفات أبي الفضل عليه السلام هي الصلابة في الإيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله.

- الجهاد والشهادة مع الحسين:

وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس عليه السلام أشاد بها الإمام الصادق عليه السلام وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيد شباب أهل الجنّة، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب


147


الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.

ج- الإمام الحجّة:

وأثنى الإمام المصلح العظيم بقية الله في الأرض قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس عليه السلام جاء فيها: "السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي..."11.

وقد ضمّ ديوان بطولات العبّاس ومواقفه الكريمة الشجاعة في واقعة كربلاء صفحات كثيرة مضيئة لكنّ أكثرها إضاءة وشهرة مواساته لأخيه الحسين بنفسه. إذ أبى أن يذوق الماء، وقد كان واقفا في لجّته وكَبِدُه تتلظّى من العطش، لأنّ الإمام الحسين عليه السلام وعياله عطاشى لم يذوقوا قطرة منه منذ أيام.

3- مواقف أبي الفضل العبّاس

لقد كان لأبي الفضل العبّاس مواقف عديدة في كربلاء تكشف عن إيمانه وثباته، ورسوخ عقيدته، وهذه المواقف العديدة هي مبادئ أسياسيّة في حياة الإنسان الجهاديّة، إذا وقف بين يدي الأعداء واعظاً ومحارباً، ومن جملة تلك المواقف:


148


أ- الثبات حتّى الشهادة:
ثبت أبو الفضل العبّاس وإخوته في ساحات الجهاد أيّما موقف مع الإمام الحسينعليه السلام، فهم من الذين جاءهم الأمان لترك الإمام الحسين عليه السلام وحده، وكان هذا من أساليب عمر بن سعد لتفتيت جيش الإمام الحسين عليه السلام، إلّا أنّه فشل في ذلك، فإيمان أصحاب الإمام وثباتهم يفوق تصوّر ابن سعد، وفي محاولة منه، فقد أرسل شمراً لإعطاء الأمان للعباس وإخوته، حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أختنا12؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ بن أبي طالب عليهم السلام فقالوا: "ما تريد؟" فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له؟!"13.

ب- الطاعة والولاء لقيادة الإمام الحسين عليه السلام:

ففي اليوم التاسع من المحرّم جاء رسول عمر بن سعد إلى الإمام الحسين عليه السلام، فنهض العبّاس، وقال: "يا أخي أتاك القوم"، فنهض الإمام الحسين عليه السلام ثمّ قال: "يا عباس، اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم". فأتاهم العباس، فقال لهم العباس: "ما بدا لكم وما تريدون؟".


149


قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: اِلقَه فأعلمه، ثمّ ?لقنا بما يقول لك. فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر.

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار".

فمضى العباس إلى القوم ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف14.


150


هوامش

1- أبي الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، تقديم أشراف: كاظم المظفر، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها النجف الأشرف، 1385 1965م، ط2، ص55.
2- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص56.
3- الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مستدركات علم رجال الحديث، تحقيق ابن المؤلف، لا.م، لا.ن، 1412ه، ط1، ج4، ص350.
4- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص56.
5- القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، السيد محمد الحسيني الجلالي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1414، ط2، ج3، ص182.
6- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص256.
7- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص56.
8- لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، دار المعروف للطباعة والنشر، 1416 - 1995م، ط3، ص362.
9- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص548.
10- أبو نصر البخاري، سر السلسلة العلوية، تقديم وتعليق: السيد محمد صادق بحر العلوم، انتشارات شريف الرضي، 1413 - 1371 ش، ط1، ص89.
11- ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد الحسني الحسيني، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، قم‏، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414ه، ط1، ج3، ص74.
12- وذلك لأن أم البنين بنت حزام أم عباس وعثمان وجعفر وعبد الله كانت كلابية وشمر ابن ذي الجوشن كلابي ولذا أخذ من ابن زياد أمانا لبنيها.
13- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص89.
14- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص90.