الليلة السابعة

المحاضرة الأولى:


العبّاس عليه السلام

الهدف: التعرّف على جوانب من حياة أبي الفضل العبّاس عليه السلام وبعض مواقفه ومنزلته عند الأئمّة عليهم السلام.

تصدير الموضوع

ورد في بعض الزيارات: "السلام عليك يا أبا الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين، السلام عليك يا ابن سيّد الوصيين، السلام عليك يا ابن أوّل القوم إسلاماً، وأقدمهم إيماناً، وأقومهم بدين الله، وأحوطهم على الإسلام, أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك فنعم الأخ المواسي، فلعن الله أمّة


169


قتلتك ولعن الله أمّة ظلمتك، ولعن الله أمّة استحلّت منك المحارم وانتهكت حرمة الإسلام, فنعم الصابر المجاهد، المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه، المجيب إلى طاعة ربّه، الراغب فيما زهد فيه غيره، من الثواب الجزيل، والثناء الجميل فألحقك الله بدرجة آبائك في دار النعيم"1.

المقدّمة:

إنّ الإطلالة على حياة شهداء الطفّ لها أثرها وفائدتها الخاصّة, حيث تعطينا دروساً خاصّة في الاقتداء بهم والسير على نهجهم. وتمتاز حياة أبي الفضل العبّاس عليه السلام من بين شهداء كربلاء أنّها سيرة أعظم شهيد بين يدي سيّد الشهداء عليه السلام, وسوف يغبطه على شهادته يوم القيامة جميع الشهداء- كما جاء في بعض الروايات الآتية-, ما يدفعنا إلى التعرّف على حياة هذا الرجل العظيم وبعض مواقفه الهامّة, وأهمّ صفاته ومزاياه علّها تكون دروساً لنا في الوفاء والعطاء والبذل والإنفاق وغيرها من الصفات الإنسانيّة الكريمة.

170


تصدير الموضوع

الولادة والنشأة:

ولد عليه السلام في اليوم الرابع من شعبان سنة 26 هجرية, فيكون عمره الشريف يوم الطفّ 34 سنة.

أبوه: الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام.

أمّه: فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر بن كلاب.. المعروفة بأمّ البنين, وكانت من النساء العارفات بفضل أهل البيت عليهم السلام, وليس في العرب أشجع من آبائها وإخوانها, وكان آباؤها من سادات العرب وزعمائهم, وهي من بيت كرم وشجاعة وفصاحة ومعرفة.

وقد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد شهادة الصدّيقة الزهراء عليها السلام قال لأخيه عقيل بن أبي طالب - وكان نسّابة عارفاً بالعرب وبيوتهم وأنسابهم- : "ابغني امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً", فقال له عقيل: أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة.

إخوته من أمّه: عبد الله, وعثمان, وجعفر.

والعبّاس أوّل مولود للإمام عليعليه السلاممن أمّ البنين, والعبّاس من أسماء الأسد الغضبان, لعلّ أمير المؤمنينعليه السلام سمّاه بذلك تفاؤلاً بشجاعته وصولته في الحروب.
 

171


كنيته وألقابه:

أمّا كنيته فأبو الفضل, وهي الكنية المعروفة والمشهورة.

وأمّا ألقابه: فقد عرف عليه السلام بألقاب كثيرة منها ما كان يلقّب به في زمانه قبل واقعة الطفّ, ومنها ما لقّب به في كربلاء, ومنها ما عرف به بعد شهادته:

قمر بني هاشم: ولعلّه لقّب بذلك لجمال هيأته ووسامة صورته, فقد قال عنه المؤرّخون: إنّه كان وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهّم ورجلاه يخطّان في الأرض.

السّقاء: وساقي العطاشى, ولذلك لاهتمامه بسقي الماء خصوصاً يوم السابع من محرّم. قالوا: بعد أن ضيّق الأعداء على الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأطفاله ومنعوا وصول الماء إلى المخيّم, دعا العبّاس بن عليّ بن أبي طالب أخاه عليه السلام فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلاً، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجمليّ، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيديّ: من الرجل.. ما جاء بك؟ قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه، قال: فاشرب هنيئاً، قال: لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه, فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله: املؤوا قربكم فشدّ الرجالة فملأوا قربهم
 

172


وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ عليه السلام ونافع بن هلال فكفوهم، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم.

صاحب اللواء: روي عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال له يوم العاشر من المحرّم حينما طلب منه الرخصة: "أنت صاحب لوائي, وإذا مضيت تفرّق عسكري".

العبد الصالح: ففي زيارة له عن الإمام الصادق عليه السلام: "السلام عليك أيّها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله.. ".

باب الحوائج: لكثرة من استجيبت حوائجهم بالتوسّل إليه والدعاء عند قبره. رحم الله السيّد صالح الحلّي إذ يقول فيه:
 
باب الحوائج ما دعته مروعة في حاجة إلّا ويقضي حاجها




ثناؤه على لسان الإمام زين العابدين عليه السلام:

عن ثابت بن أبي صفيّة، قال: نظر سيّد العابدين عليّ بن الحسينL إلى عبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام فاستعبر، ثمّ قال: "ما من يوم أشدّ على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم من يوم أحد، قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب". ثمّ قال عليه السلام: "ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم من هذه الأمّة كلّ يتقرّب إلى الله عزَّ وجلّ بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً".
 

173


ثمّ قال عليه السلام: "رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه، فأبدله الله عزَّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"2.

ثناؤه على لسان الإمام الصادق عليه السلام:

عن الإمام الصادق عليه السلام: "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة صلب الإيمان, جاهد مع أبي عبد الله وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً".

وفي بعض الزيارات المرويّة عنه: "أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل والسبط المنتجب..".

وفي زيارة أخرى: "أشهد أنّك بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود.. ".

ثناؤه على لسان الإمام الحجّة |:

في زيارة الناحية المقدّسة: "السلام على أبي الفضل العبّاس المواسي أخاه بنفسه الآخذ لغده من أمسه, الوافي له, الساعي إليه بمائه.. ".

174


من مظاهر وفائه:

1. حينما ملك الشريعة يوم الطفّ- وهو في أشدّ حالات العطش- أبى أن يشرب الماء مواساة لعطش أخيه الحسين عليه السلام وأهل بيته وأطفاله.

وأثر عنه قوله في رجزه:
 
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين وارد المنون وتشربين بارد المعين


تالله ما هذا فعال ديني


2. ولمّا جمع الإمام الحسين عليه السلام أهل بيته وأصحابه ليلة العاشر من المحرّم وخطبهم فقال في خطبته: "أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي, ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي, وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً, وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي, وتفرّقوا في سواد هذا الليل, وذروني وهؤلاء القوم فإنّهم لا يريدون غيري"، قام إليه العبّاس عليه السلام فبدأهم فقال: ولم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً, ثمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بمثل هذا ونحوه3.

3. ولمّا نادى شمر: أين بنو أختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فلم

175


يجبه أحد, فقال لهم الحسين عليه السلام: "أجيبوه وإن كان فاسقاً فإنّه بعض أخوالكم", قال له العبّاس: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون, فقال له العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟! وتكلّم إخوته بنحو كلامه ثمّ رجعوا4.

منزلته عند الإمام الحسين عليه السلام:

لقد كان للعبّاس عليه السلام منزلة عظيمة عند أخيه الإمام الحسين عليه السلام, فهو صاحب لوائه والمنتدب للمهمّات من قبله, وقد تولّى العديد من هذه المهمّات من قبل الإمام عليه السلام:

منها: أنّه في اليوم السادس من المحرّم حينما كلّم الإمام الحسين عليه السلام عمر بن سعد بين المعسكرين في جوف الليل, رافقه في هذه المهمّة التي لم يرافقه فيها سوى العبّاس وولده عليّ الأكبر عليهما السلام.
ومنها: في اليوم السابع من المحرّم حيث انتدبه الإمام لجلب الماء إلى المخيّم كما تقدّم.

ومنها: في اليوم التاسع من المحرّم حينما زحف الجيش على مخيّم الإمام الحسين عليه السلام انتدبه للتفاوض مع القوم فقال له: "اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟".

176


ومنها: في ليلة العاشر من المحرّم- بل في كلّ ليالي كربلاء- كان هو المضطلع بحراسة المخيّم ورفع الوحشة والخوف عن عائلة النبوّة والإمامة, وكان الإمام يرسله وولده عليّ الأكبرL حينما يسمع بكاء النساء والأطفال ويأمرهما بإسكاتهم وتطمين نفوسهم.

فليس عجباً أن يكون العبّاس آخر قتيل من أهل بيته وأصحابه إذ لم يسمح له الحسين عليه السلام بالرخصة للمبارزة, وكفاه فخراً أنّ سيّد الشهداء عليه السلام قال فيه عند شهادته: "الآن انكسر ظهري, وقلّت حيلتي, وشمُت بي عدوّي"5.

177


المحاضرة الثانية:


الحلم والغضب وأثرهما في السلوك‏

الهدف: فهم صفتي الغضب والحلم وأثرهما على سلوك الإنسان، واستقرار المجتمع.

تصدير الموضوع

عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال: "ما من عبد كظم غيظاً، إلّا زاده الله عزَّ وجلَّ عزّاً في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وأثابه مكان غيظه ذلك"6.

179


وعنه عليه السلام: "سمعت أبي يقول: أتى رسول الله رجل بدويّ، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلّمني جوامع الكلام, فقال: آمرك أن لا تغضب. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرّات، حتّى رجع إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شي‏ء بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلّا بالخير..."7.

المقدّمة:

يواجه الإنسان في سلوكه الشخصيّ والعامّ الكثير من المثيرات والانفعالات التي توقعه في الغضب، والخطأ والمعصية أحياناً، ولأن الغضب قوّة مودعة في الإنسان لفلسفة خاصّة، فاحتاج الإنسان إلى منظّم لهذه القوّة، فكان الحلم وكظم الغيظ أحد أهمّ الصفات التي تحلّى بها النبيّ وأهل بيته عليهم السلام.

محاور الموضوع

1 - مفهوم الحلم وكظم الغيظ:

وهما: ضبط النفس إزاء مثيرات الغضب. وهما من أشرف السجايا، وأعزّ الخصال، ودليلا سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودّة والإعزاز، وقد مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم، فقال تعالى:
﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ

180


الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 8.

وقال تعالى:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 9.

وقال تعالى:
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 10.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ يحبّ الحيي الحليم"11.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أوّل عوض الحليم من حلمه، أنّ الناس أنصاره على الجاهل"12.

وقال الصادقعليه السلام: "إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت، وأنت أهل لما قلت، ستجزى بما قلت؛ ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت، سيغفر الله لك، إن أتممت ذلك؛ قال: فإن رد الحليم عليه ارتفع الملكان"13.

وعنه عليه السلام: "اصبر على أعداء النعم، فإنّك لن تكافئ من

181


عصى الله فيك، بأفضل من أن تطيع الله فيه"14.

وأحضر عليه السلام ولده يوماً فقال لهم: " يا بَنِي إنّي موصيكم بوصيّة، فمن حفظها لم يضع معها، إن أتاكم آت فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً، ثمّ تحوّل إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره"15.

2 – الحلم صفة قوّة لا ضعف:

وقد يحسب السفهاء أنّ الحلم من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكن العقلاء يرونه من سمات النبل، وسموّ الخلق، ودواعي العزّة والكرامة، فكلّما عظم الإنسان قدراً، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالاتهم وطيشهم، معتصماً بالحلم وكرم الإغضاء، وحسن العفو، ما يجعله مثار الإكبار والثناء.

يقال: إنّ رجلا شتم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك قال: (لا أدخل حرباً الغالب فيها أشرّ من المغلوب). ومن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحلم، ما رواه الإمام الرضا عليه السلام، حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحلم، فقال:

182


 
إذا كان دوني من بليت بجهله أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلّي من النهى أخذت بحلمي كي أجلّ عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى عرفت له حقّ التقدّم والفضل‏


فقال المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَنْ قاله؟ فقال: بعض فتياننا16.

3 - مفهوم الغضب وبواعثه وطريقة علاجه:

أ - مفهومه:

هو حالة نفسيّة، تبعث على هياج الإنسان، وثورته قولاً أو عملاً. وهو مفتاح الشرور، ورأس الآثام، وداعية الأزمات والأخطار، وهو غريزة هامّة، تلهب في الإنسان روح الحميّة والإباء، وتبعثه على التضحية والفداء، في سبيل أهدافه الرفيعة، ومثله العليا، كالذود عن العقيدة، وصيانة الأرواح، والأموال، والكرامات. ومتى تجرّد الإنسان من هذه الغريزة صار عرضة للهوان والاستعباد، كما قيل: من استغضب فلم يغضب فهو حمار.

فيستنتج من ذلك: أنّ الغضب نوعان:

183


• الغضب المذموم وهو ما أفرط فيه الإنسان، وخرج به عن الاعتدال، متحدّياً ضوابط العقل والشرع.

• والغضب الممدوح وهو من الفضائل المشرّفة، التي تعزّز الإنسان، وترفع معنويّاته، كالغضب على المنكرات، والذنوب والمعاصي.

وقد كثرت الآثار في ذمّه والتحذير منه:

قال الصادقعليه السلام: "الغضب مفتاح كلّ شرّ"17.

وإنّما صار الغضب مفتاحاً للشرور، لما ينجم عنه من أخطار وآثام، كالاستهزاء، والتعيير، والفحش، والضرب، والقتل، ونحو ذلك من المساوئ.
وقال الباقرعليه السلام : "إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النّار"18.

وقال أمير المؤمنين: "واحذروا الغضب، فإنّه جند من جنود إبليس"19.

ب- بواعثه:

لا يحدث الغضب عفواً واعتباطاً، وإنّما ينشأ عن أسباب وبواعث عديدة أهمّها:

184


قد يكون منشأ الغضب انحرافاً صحيّاً، كاعتلال الصحّة العامّة، أو ضعف الجهاز العصبيّ، ممّا يسبّب سرعة التهيّج.

وقد يكون المنشأ نفسيّاً، منبعثاً عن الإجهاد العقليّ، أو المغالاة في الأنانيّة، أو الشعور بالإهانة، والاستنقاص، ونحوها من الحالات النفسيّة، التي سرعان ما تستفزّ الإنسان، وتستثير غضبه.

وقد يكون المنشأ أخلاقيّاً، كتعوّد الشراسة، وسرعة التهيّج، ممّا يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه.

ج - علاج الغضب:

• يمكن معالجة الغضب وتكريس مبدأ الحلم وكظم الغيظ بعدّة أساليب, منها:

• إذا كان منشأ الغضب اعتلالاً صحيّاً، فعلاجهم توفير دواعي الراحة النفسيّة والجسميّة لهم، إلى جانب العلاج الطبّي.

• الابتعاد عن مثيرات الغضب وأهمّها: المغالاة في الأنانيّة، الجدل والمراء، الاستهزاء والتعيير، المزاح الجارح. وعلاجه في هذه الصورة باجتناب أسبابه.

• تذكر مساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، وأنّها تحيق بالغاضب، وتضرّ به أكثر من المغضوب عليه، فربّ أمر تافه أثار غضبة عارمة، أودت بصحّة الإنسان وسعادته.

185


إنّ سطوة الغضب ودوافعه الإجراميّة، تعرّض الغاضب لسخط الله تعالى وعقابه، قال الصادق عليه السلام: "أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وأرضَ بي منتصراً، فإنّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك"20.

من الخير للغاضب إرجاء نزوات الغضب وبوادره، والتروّي في أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فذلك ممّا يخفّف حدّة التوتّر والتهيّج، ويعيده إلى الرشد والصواب، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلّ من تشبّه بقوم إلّا أوشك أن يكون منهم"21.

ومن علاج الغضب: الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وجلوس الغاضب إذا كان قائماً، واضطجاعه إن كان جالساً، والوضوء أو الغسل بالماء البارد، ومسّ يد الرحم إن كان مغضوباً عليه، فإنّه من مهدّئات الغضب.

186


المحاضرة الثالثة:


الشهادة

الهدف: التعرّف على فلسفة الشهادة، ومكانة الشهيد ومنزلته في الإسلام، وتكريس ثقافة الشهادة في حفظ الحقوق، وعزّة الإسلام والمسلمين.

تصدير الموضوع

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: فوق كلّ ذي برٍّ برّ حتّى يقتل الرجل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"22.

187


و عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفرعليه السلام يقول: "إنّ عليّ بن الحسين عليه السلام كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: ما من قطرة أحبّ إلى الله عزَّ وجلّ من قطرة دم في سبيل الله"23.

المقدّمة:

إنّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أنّ سموّ الأهداف ونبل الغايات تقتضي سموّ التضحيات وشرفها ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم, فإنّ الذود عن حياض هذا الدّين والدفاع عن مقدّساته يتبوّأ أرفع درجات هذا الرضوان, ثمّ إنّ للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعدّدة, لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس, وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله.

محاور الموضوع

فضل الجهاد والشهادة:

ورد عن الإمام الحسينعليه السلام: "بينما أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يخطب الناس ويحثّهم على الجهاد، إذ قام إليه شاب، فقال: يا

188


أمير المؤمنين، أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله. فقال: كنتُ رديف رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، ونحن منقلبون من غزوة ذات السلاسل، فسألته عمّا سألتني عنه فقال: الغزاة إذا همّوا بالغزوة كتب الله لهم براءة من النّار، فإذا تجهّزوا لغزوهم، باهى الله بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم، بكت عليهم الحيطان، والبيوت، ويخرجون من الذنوب كما تخرج الحيَّة من سلخها، ويوكل الله بكلّ رجل أربعين ملكاً، يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلّا ضعف له، ويكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل،... وإذا صاروا بحضرة عدوّهم، انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، فإذا برزوا لعدوّهم، وأشرعت الأسنَّة،.. حفّتهم الملائكة بأجنحتها، يدعون الله بالنصرة والتثبيت. فينادي منادٍ: الجنّة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد، أهون من شرب الماء البارد، في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد من فرسه، بطعنة أو ضربة، لم يصل إلى الأرض، حتّى يبعث الله إليه زوجته من الحور العين، فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض، تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة، الذي أخرج من البدن الطيّب، أبشر، فإنّ لك: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.... (إلى أن قال): فإذا كان يوم القيامة، فوالّذي نفسي بيده، لو كان الأنبياء على طريقهم، لترجّلوا لهم، لما يرون من بهائهم، حتّى يأتوا إلى

189


موائد من الجوهر، فيقعدون عليها، ويشفع الرجل في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرانه... فيقعدون معي، ومع إبراهيم، على مائدة الخلد"24.

2- ترسيخ معنى الشهادة:

حرص النبيّ وأهل بيته عليه السلام على ترسيخ مفهوم الشهادة: سالكًين في ذلك مسالك عديدة منها:

التضحية بالأرواح والأنفس المقدّسة والغالية، دفاعاً عن مقدّسات الإسلام، ويشهد تاريخهم الجهاديّ الطويل على ذلك.

التصريح بحبّ الشهادة والشهداء: فورد عنه صلى الله عليه و آله وسلم قال: "والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثمّ أغزو فأقتل, ثمّ أغزو فأقتل"25، وعن عليّ عليه السلام:"...فوالله إنّي لعلى حقّ وإنّني للشهادة لمحبّ"26.

بيان صفة حياة الشهداء عند ربّهم: قال تعالى:
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 27. وقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ 28.

190


3 - خصال وخصوصيّات الشهيد:

وهي عديدة منها: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "للشهيد عند الله ستّ خصال: يغفر له في أوّل دفعة, ويرى مقعده من الجنّة, ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها, ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه - وفي لفظ- من أهل بيته"29.

ومنها: أنّه يخفّف عنه مسّ الموت حتّى إنّه لا يجد من ألمه إلّا كما يجد أحدنا من مسّ القرصة, عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلّا كما يجد أحدكم من مسّ القرصة"30,

ومنها أنّ باب الشهداء في الجنّة أحسن الدور وأفضلها, عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل, لم أرَ قطّ أحسن منها قالا لي: أمّا هذه فدار الشهداء"31.

- ومنها: ما عن الإمام السجّاد عليه السلام: "..ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله وقطرة دمعة في سواد

191


الليل لا يريد بها عبد إلّا الله عزَّ وجلّ"32.

ومنها: ما عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: "ما من أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلّا الشهيد، فإنّه يتمنّى أن يرجع فيقتل عشر مرّات لما يرى من الكرامة"33.

4- الشهادة و الشّهيد في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره:

لقد أوضح الإمام الخميني{ فلسفة الشهادة في مناسبات عدّة ونشير إلى بعض منها:

• دروس الشهادة: شهادة أبطال ميادين الجهاد الإلهيّ، أوج كمال نضالهم وصمودهم وتضحياتهم، وختم قبولٍ من الرّب حتّى يحضروا في زمرة مخلصيه".

• "الدّرس الكبير الذي يعطينا الشهداء الأعزّاء وعلينا أن لا ننساه أبداً هو أنّه في مواقع الضّرورة علينا أن نفدي حياتنا وكلّ ما هو غال لدينا في سبيل إحياء القيم الإسلاميّة".

• تكـريم الشّهــداء: "واجب التكريم والتّقدير للمناضلين خاصّة الشهداء، فريضةٌ عينيّةٌ وتعيينيّة ودائمة".

• ثقافة الشهادة: "حقّ الشهداء الكبير علينا أن نوضّح للجميع ثقافة الشّهادة ومكانة الجهاد في سبيل الله".

192


5- رسالة وعظمة الشهادة عند الإمام الخامنئي? :

قال القائد? : "الشهيد معنى كبير، وحقيقة تثير الدهشة... إنّ حقيقة الشهادة حقيقة عظمى... إنّ للشهداء حركتان وموقفان في منتهى الروعة والعظمة، وكلّ واحد منهما يحمل نداء عميقاً؛ أحدهما، موقف من الإرادة الإلهيّة المقدّسة، وإزاء دين الله وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء الله.

كما أنّ الإيمان درجات، وأصحاب الجنّة درجات، وأهل النّار درجات، كذلك التضحية بالأموال درجات، والتضحية بالأنفس درجات، والشهادة التي هي أمّ التضحيات، وأشرف الطاعات، وأهمّ العبادات، وأفضل الدرجات، وأقصى غاية الجود... هي الأخرى منازل ودرجات متفاوتة.

ورسالة الشهيد، تبدأ من حيث الشهادة! فبالشهادة، قد يحقّق الشهيد هدفه السياسيّ، وهذا لا يعني انتهاءه، فآثار الشهيد ستبقى حيَّة، تستثير الضمائر الحرّة، والقلوب الواعية وقد تؤول إلى صناعة أجيال ثائرة، تحمل هموم الشهداء، وتعمل لتحقيق أهدافهم.

ورسالتهم هي أنّ من يبتغي مرضاة الله، ويطمح لأن يكون وجوده نافعاً في سبيل الله على طريق تحقيق الغايات الإلهيّة السامية في عالم الوجود، فعليه أن ينكر ذاته في مقابل الأهداف ذات الطابع الإلهيّ، وليس هذا من نوع التكليف الذي لا يطاق.

193


حيثما تمسّكت فئة مؤمنة بهذه السمة (الإيثار) انتصرت كلمة الله، وحيثما ارتعدت فرائص المؤمنين، كانت الغلبة بلا جدال لكلمة الباطل.

ينبغي للشهادة أن تكون في سبيل الله، لكي تكون شهادة على الحقيقة.

لا شي‏ء في الدنيا من الأمور الفانية يمكن أن يستحقّ بذل الدماء، لا عصبيّة عشائريّة أو طبقيّة أو حزبيّة... الخ؛ لأنّه لا شي‏ء من ذلك يمكن أن يعطي للقتل معنى "الشهادة" فقط شي‏ء واحد، هو الذي يعطي للقتل معنى الشهادة، ومضمون الشهادة، أن تكون في سبيل الله تعالى.

يقول رسول الله مؤكِّداً دور النيَّة في الشهادة: "كم ممَّن أصابه السلاح ليس بشهيد ولا حميد، وكم ممَّن قد مات على فراشه حتف أنفه عند الله صدِّيق شهيد"34.

وعنه: "إنّما يبعث الله المقتتلين على النيّات"35.

وجاء أعرابيّ‏ُ النبيصلى الله عليه و آله وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يُقاتل للمغنم، والرجل يُقاتل ليُذكر، والرجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقالصلى الله عليه و آله وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"36.

194


عظمة الشهادة:

يقول الإمام القائد? : "لمَ للشهادة هذا القدر من العظمة والأهميّة؟ السبب هو أنّ الإنسان الذي يقدِّم روحه في سبيل الله، هو في الحقيقة قد قام بالعمل اللازم في لحظة الحاجة وفي الوقت الذي يحتاج فيه الدّين وسبيل الله إلى الأشخاص الذين يعطونه ذلك الرونق. الشخص الذي يجهد في سبيل الله ويصرف نظره عن طلب الراحة، والمرأة والأولاد، والمتاعات العاديّة، سيكون له الأجر الإلهيّ وهو نفس الشهادة، فهذا وسام يدلّ على عظمة مجاهداته، لذا ذكرت مراراً أنّ الشهادة هي أفضل ثواب وأجر للجهاد في سبيل الله".

وفي أجر الشهادة يقول الإمام القائد? : "هؤلاء الأشخاص هم الذين باعوا أرواحهم أيضاً، الشهادة بالنسبة لكلّ إنسان هي نوع من الامتياز. وحقّاً إذا استجاب الله دعاء الشخص بأن يجعل موته بالشهادة، فإنّه يكون قد وهبه أعظم كرامة وامتياز ويعطيه مقابل جوهره الذي رحل الجنّة ورضاه".

195


هوامش
1- بحار الأنوار ج 98 ص 218.
2- الأمالي للصدوق, ص 547.
3- أعيان الشيعة ج 7 ص 430.
4- المصدر السابق.
5- أخذناه بتصرّف من هامش كتاب مقتل الحسين عليه السلام للسيّد محمّد تقيّ آل بحر العلوم, تعليق: نجله السيّد الحسين, ص 309 وما بعده, بتصرّف وإضافة.
6- الكافي, ج6 ص 109.
7- الكافي, ج6 ص 307.
8- سورة الفرقان, آية 63.
9- سورة فصّلت, آية 35.34.
10- سورة آل عمران, آية 134.
11- الكافي, ج6 ص 111.
12- نهج البلاغة, ص 45.
13- الكافي, ج 6 ص 113.
14- الأمالي, ص158.
15- بحار الأنوار, ج 64 ص 474.
16- عيون أخبار الرضا, ج1 ص 187.
17- الخصال, ص 7.
18- الكافي, ج6 ص 307.
19- نهج البلاغة, ص 47.
20- الكافي, ج2 ص 307.
21- شرح أصول الكافي, ج8 ص 378.
22- الكافي, ج 6 ص 348.
23- الكافي, ج 5 ص 53.
24- مستدرك الوسائل, ج 11 ص 7.
25- ميزان الحكمة, ج 2 ص 1513.
26- بحار الأنوار, ج 20 ص 7.
27- سورة آل عمران: آية 169.
28- سورة البقرة: آية 154.
29- مسند الطبراني, ج 2 ص 189.
30- كنز العمّال, ج 4 ص 397.
31- رياض الصالحين, ص 522.
32- وسائل الشيعة, ج 4 ص 1121.
33- ميزان الحكمة, ج 2 ص 1515.
34- ميزان الحكمة, ج 2 ص 1516.
35- ميزان الحكمة, ج 4 ص 3415.
36- ميزان الحكمة, ج 2 ص 1248.