الليلة الثالثة

المحاضرة الأولى:

 
الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام

الهدف: التعرّف على أهمّ سمات شخصيّة الإمام الحسينعليه السلام، وموقعه في الإسلام من خلال نظرة رسول البشريّةصلى الله عليه و آله وسلم إليه، والاقتداء به.

تصدير الموضوع

عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم : "الحسن والحسين ابناي من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النّار"
1.


71


محاور الموضوع

1- الإمام عليه السلام في سطور:

هو أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب ثالث أئمّة أهل البيت الطاهرين، وثاني سبطَي رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة المصطفى، وأحد الخمسة أصحاب العبا وسيّد الشهداء، واُمّه فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليهم). أكّد أغلب المؤرّخين أنّه ولد بالمدينة في الثالث من شعبان في السنة الرابعة من الهجرة.

وضعت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها السلام وليدها العظيم، وزفّت البشرى الى الرسولصلى الله عليه و آله وسلم، فأسرع إلى دار عليّ والزهراءL، فقال لأسماء بنت عميس: "يا أسماء هاتي ابني"، فحملته إليه وقد لُفّ في خرقة بيضاء، فاستبشر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وضمّه إليه، وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثمّ وضعه في حجره وبكى، فقالت أسماء: فداك أبي وأمّي، ممّ بكاؤك؟ قال: "من ابني هذا". قالت: إنّه ولد الساعة، قال: "يا أسماء! تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي..."2.


72


ثمّ إنّ الرسولصلى الله عليه و آله وسلم قال لعليّعليه السلام: أيّ شي‏ء سمّيت ابني؟ فأجابه عليّ عليه السلام: "ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله". وهنا نزل الوحي على حبيب الله محمّداً صلى الله عليه و آله وسلم حاملاً اسم الوليد من الله تعالى، وبعد أن تلقّى الرسول أمر الله بتسمية وليده الميمون، التفت الى عليّعليه السلام قائلاً: "سمّه حسيناً"3.

2 - اهتمام النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم بالإمام عليه السلام:

لقد تضافرت النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم بشأن الحسين وهي تبرز المكانة الرفيعة التي يمثّلها في دنيا الرسالة والأمّة. ويمكن الوقوف عند عدّة نماذج منها:

إنّ النبيّصلى الله عليه و آله وسلم كان جالساً فأقبل الحسن والحسينL، فلمّا رآهما النبيّ قام لهما واستبطأ بلوغهما إليه، فاستقبلهما وحملهما على كتفيه، وقال: "نعم المطيُّ‏ مطيّكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما"4.

رُوي عن ابن مسعود أنّه قال: كان النبيّ يصلّي فجاء الحسن والحسين فارتدفاه، فلمّا رفع رأسه أخذهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عاد عادا، فلمّا انصرف أجلس هذا على فخذه الأيمن وهذا على فخذه الأيسر، ثمّ قال: "من أحبّني فَلْيُحبّ هذين"5.


73


"حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط"6.
"الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمّهما أفضل نساء أهل الأرض"7.

3 - سماة شخصيّة للإمام عليه السلام:

أ - عبادته وتقواه:

الإمام الحسين وهو أحد أعمدة البيت النبويّ الطاهر كان يقوم بين يدي الجبّار مقام العارف المتيقّن والعالم العابد، فإذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال: "حقّ لمن وقف بين يدي الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله"8.
وحرص على أداء الصلاة في أحرج المواقف، حتّى وقف يؤدّي صلاة الظهر في قمّة الملحمة في اليوم العاشر من المحرّم وجيوش الضلالة تحيط به من كلّ جانب وترميه من كلّ صوب.
وكان عليه السلام يخرج متذلّلاً لله ساعياً الى بيته الحرام يؤدّي مناسك الحجّ بخشوع وتواضع، حتّى حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه. وإنّ نظرة واحدة الى دعائه في يوم عرفة تبرهن


74


على عمق هذه المعرفة وشدّة العلاقة مع الله تعالى، من مقاطع هذا الدعاء العظيم:
قال: "كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهِر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً...
إلهي هذا ذُلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك. منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبوديّة بين يديك..."9.

وقد اشتهرت بين محدّثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه الخاشعة في عرفات أيّام موسم الحجّ، ومناجاته الطويلة لربّه وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والناس حوله.

ب- تواضعه:

فقد نُقلت عنه مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع مظهراً سماحة الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك:


75


إنّه قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه الى طعامهم فجلس معهم وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت معكم. ثمّ قال: قوموا الى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم10.

وروي: أنّه مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة، فقالوا: الغداء، فقال: إنّ الله لا يحبّ المتكبّرين، فجلس وتغدّى معهم ثمّ قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم، فمضى بهم الى منزله وقال لزوجته: أخرجي ما كنت تدّخرين11.

ج- حلمه وعفوه:

تأدّب الحسين السبط بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وسلم يوم عفا عمّن حاربه ووقف ضدّ الرسالة الإسلاميّة، فقد روي عنه أنّه قال: "لو شتمني رجل في هذه الأذن وأومأ إلى اليمنى واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حدّثني أنّه سمع جدّي رسول الله يقول: لا يرد الحوض مَن لم يقبل العذر من محقّ أو مبطل12.


76


د - جوده وكرمه:

عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى. وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال: كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى:
 ﴿ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ، وكان أحسن منها عتقها13.

ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسينعليه السلام وأنشد قائلاً:
 

حرّك من دون بابك الحلقة لم يخب الآن من رجاك ومن
أبوك قد كان قاتل الفسقة أنت جواد وأنت معتمد  


فأسرع إليه الإمام الحسين وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر وقال متسائلاً: ما تبقّى من نفقتنا؟ قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال: هاتها فقد أتى مَن هو أحقّ بها منهم، فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً:
 

خذها فإنّي إليك معتذر واعلم بأنّي عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصاً أمست سمانا عليك مندفقة
لكنّ ريب الزمان ذو غِير والكفّ منّي قليلة النفقة

77


فأخذها الأعرابيّ شاكراً وهو يدعو له بالخير، وأنشد مادحاً:14
 

وأنتم أنتم الأعلون عندكم علم الكتاب وما جاءت به السورُ
من لم يكن علويّاً حين تنسبه فما له في جميع الناس مفتخر(2)


هـ - شجاعته وإباؤه:

فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة في كربلاء حتّى شهد له عدوّه بذلك، فقد قال حميد بن مسلم: فوالله ما رأيت مكثوراً - أي تكاثروا عليه - قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه، إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب15.

وأكثر ما يبرز ذلك حين وقف ذلك الموقف الرساليّ العظيم يهزّ الأمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً وذلّاً، رافضاً بيعة الطليق ابن الطليق يزيد بن معاوية قائلاً: "إنّ مثلي لا يبايع مثله"16.

وها هو يصرّح لأخيه محمّد بن الحنفية مجسّداً ذلك الإباء بقوله: "يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية"17.


78


وكذا عندما وقف صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الاُمويّة قائلاً: "والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون"18.

لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسينعليه السلام تعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات، كما تنمّ عن عزّته واعتداده بالنفس، فقد قال:

"ألا وإنّ الدعيِّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"19.


79


المحاضرة الثانية:


الإصلاح بين الناس

تعريف المجتمع بضرورة الإصلاح بين المسلمين وأهميّته للوصول إلى كمال المجتمع في ظلّ رعاية الله تعالى.

تصدير الموضوع

قال الإمام الحسينعليه السلام: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً, وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي..."20.


81


المقدّمة:

يعتبر الإصلاح بين الناس من الضرورات الاجتماعيّة والدينيّة، التي أكّدت عليها الشريعة في الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة، واعتبرتها القوانين الوضعيّة من أصول البنية الاجتماعيّة. وقد أولت الأحاديث موضوع الإصلاح بين الناس أو إصلاح ذات البين أهميّة فائقة، بحيث حثّت الناس على هذا الأمر وشجّعتهم عليه بمختلف العناوين.

محاور الموضوع:

1 - أهميّة الإصلاح في الشريعة الإسلاميّة:

يقول تعالى:
 ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 21.

2- ذمّ التهاجر بين المسلمين:

قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء 22.
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم "أيُّما مُسلمَين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلّا كانا خارجَين من الإسلام ولم يكنْ بينهما


82


ولايةٌ، فأيُّهما سبق إلى كلامِ أخيه كان السابق إلى الجنّة يومَ الحساب"23.

وعنه صلى الله عليه و آله وسلم:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث, فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار"24.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يفترق رجلان على الهجران إلّا استوجب أحدُهما البراءة واللعنة، ورُبما استحق ذلك كلاهما"25.

وقال الإمام الصادقعليه السلام: "لا يزالُ إبليسُ فرحاً ما اهتجر المُسلمانِ فإذا التقيا اصطكّت رُكبتاهُ وتَخلّعت أوصاله ونادى: يا ويله ما لقي من الثُّبور"26.

ومن دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهمّ صلّ على محمد وآله وَحَلِّني بحِلية الصالحين وأَلبسني زينةَ المُتّقين في بسطِ العَدْلٍ وكَظمِ الغيظِ وإطفاءِ النّائرة وضمّ أهلِ الفُرقَةِ وإصلاح ذاتِ البينِ"27.

3- سيرة الأئمّة المعصومينعليه السلام في الإصلاح:

يحظى الإصلاح بين المؤمنين بأهمية خاصة لدى أئمة أهل


83


البيت عليهم السلام لذلك أوصى الإمام الصادقعليه السلام أحد أصحابه ويدعى المفضّل قائلاً: "إذا رأيتَ بين اثنينِ من شيعتنا مُنازعةً فافْتدِها من مالي"28.

وجاء في إحدى الروايات: "مرّ بنا المفضّل وأنا وختَني نتشاجرُ في ميراثٍ، فوقف علينا ساعةً ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناهُ فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ‏ٌ واحدٍ منّا من صاحبه، قال: أما إنّها ليستْ من مالي ولكن أبو عبد اللهعليه السلام أمرني: إذا تنازع رجُلان من أصحابنا في شيء أن أُصلحَ بينهما وأفتديها من مالِه. فهذا من مالِِ أبي عبد الله الصادق"29.

4- الإصلاح أفضل العبادة:

من وصيّة أمير المؤمنين لولديه الحسن والحسينعليه السلام: "... إنّي سمعتُ جدّكماصلى الله عليه و آله وسلم يقول: صلاح ذاتِ البينِ أفضلُ من عامّة الصلاةِ والصيّام"30.

5- الإصلاح أفضل الصدقة:

عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم: "أفضل الصدقة إصلاح ذاتِ البين"31.


84


وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لأنْ أُصلحَ بين اثنينِ أحبّ‏ُ إليّ من أنْ أتصدَّق بدينارَين"32.

وعنهعليه السلام: "صدقةٌ يُحبّها الله: إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارُبٌ بينهم إذا تباعدوا"33.

6 - جواز الكذب من أجل الإصلاح:

عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "لا يُصلح الكذبُ إلّا في ثلاثة مواطنٍ... كذبُ الرجل يمشي بين الرجلين ليصلحَ بينهما"34.

الإمام الصادقعليه السلام لأحد أصحابه "إنّ المصلح ليس بكذّاب، إنّما هو الصَلحُ ليس بكذبٍ"35.

رغم ذمّ الكذب في القرآن والأحاديث وعدّه من الكبائر، إلّا إنّ الإسلام أجازه إذا أُريد به الإصلاح بين الناس؛ وفضّ النزاع بين الجانبين المتنازعين.


85


المحاضرة الثالثة:


التوكّل

الهدف: التعرّف على الأبعاد الإيمانيّة والعقائديّة للتوكّل، ومدى انعكاس ذلك على السلوك الإنسانيّ، وتعزيز العلاقة والثقة المطلقة بالله تعالى.

تصدير الموضوع

قال رسول اللهصلى الله عليه و آله وسلم: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"36.


87


المقدّمة:

يعتبر التوكّل من دلائل الإيمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزّة نفوسهم، وترفّعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكّل على الخالق في كسب المنافع ودَرء المضارّ.
معنى التوكّل:

التوكّل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمُله من المخلوقين، والاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عمّا سواه، وباعثه قوّة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثّره بالمخاوف والأوهام.

محاور الموضوع

1- التوكّل في الكتاب والسنّة:

وقد تواترت الآيات والآثار في مدحه والتشويق إليه: قال تعالى:
 ﴿  وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ 37.
وقال:
 ﴿  إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 38.
وقال:
 ﴿  قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 39.


88


وقال: ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ 40.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا"41.

وقالعليه السلام: "أوحى الله إلى داودعليه السلام: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثمّ تكيده السماوات والأرض، ومن فيهن، إلّا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، إلّا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأيّ واد هلك"42.

وقالعليه السلام: "من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكّل أعطي الكفاية"43.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه السلام: "كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيّته في طلب الرزق، إنّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له


89


في واحدة منها كسب ولا حيلة، إنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة: أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحم أمّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرّ ولا برد، ثمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويربيه وينعشه من غير حول به ولا قوّة.
ثمّ فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة، حتّى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة إقتار رزق، وسوء يقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بني"44.


2 - أركان التوكّل:

يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أربعة أركان للتوكّل:

أ - إنّ الحقّ تعالى عالم بحاجات العبادات.
ب - إنّه تعالى قادر على تلبية تلك الحاجات.
ج - إنّه ليس في ذاته المقدّسة بخل.
د - إنّ الله رحيم بالعباد رؤوف بهم45.


90


3- كيفيّة التوكّل:

ليس معنى التوكّل إغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأن يقف المرء إزاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.

إنّما التوكّل هو: الثقة بالله عزَّ وجلّ، والركون إليه، والتوكّل عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وأنّه وحده المُصرّف لأمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم.

فالاعتماد التامّ على الأسباب والوسائل وحدها نوع من الشرك الناتج عن ضعف الإيمان والثقة بالله تعالى، ولا ينافي ذلك سعي الإنسان والاستفادة من الأسباب الطبيعيّة، والوسائل الظاهريّة لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزوّد للسفر، والتسلّح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرّز من الأخطار والمضار، فهذه كلّها أسباب ضروريّة لحماية الإنسان، وإنجاز مقاصده، وقد أبى الله عزَّ وجلّ أن تجري الأمور إلّا بأسبابها، فلا بدّ من الأخذ بأسباب الحياة والالتزام بقوانينها، ثمّ نتوكّل على الله تعالى ونطلب منه أن يمدّنا بالتوفيق والعناية والعطاء الغيبي.

بيد أنّه يجب أن تكون الثقة به تعالى، والتوكّل عليه، في إنجاح


91


الغايات والمآرب دون الأسباب، وآية ذلك أنّ أعرابيّاً أهمل عَقل بعيره متوكّلاً على الله في حفظه، فقال النبيّصلى الله عليه و آله وسلم له: "إعقل وتوكّل"46.

4 - درجات التوكّل:

سئل أبو الحسن الأوّل عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلّ:
 ﴿  وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، فقال: "التوكل على الله درجات منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها"47.

فيتفاوت الناس في مدارج التوكّل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم، فمنهم السبّاقون والمجلّون في مجالات التوكّل، المنقطعون إلى الله تعالى، والمعرضون عمّن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فلكهم من الأولياء.
ومن أروع صور التوكّل وأسماه، ما روي عن نبيّ الله إبراهيم عليه السلام: أنّه لما ألقي في النّار، تلقّاه جبرائيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال عليه السلام: "أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل".

فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أخمدتُ النّار فإنّ خزائن


92


الأمطار والمياه بيدي، فقالعليه السلام: "لا أريد".

وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيّرت النّار، فقال عليه السلام: "لا أريد"، فقال جبرائيل: فاسأل الله، فقال عليه السلام: "حسبي من سؤالي علمه بحالي"48.
ومن الناس من هو عديم التوكّل، لضعف إحساسه الروحيّ، وهزال إيمانه، ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكّل.

5 - كيف تكسب التوكّل:

• الاستفادة من المفاهيم والمعاني العالية للتوكّل الواردة في الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب الطمأنينة والرخاء.
• تقوية الإيمان بالله عزَّ وجلّ، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنّه هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وهو على كلّ شي‏ء قدير.
• التنبّه إلى جميل صنع الله تعالى، وسموّ عنايته بالإنسان في جميع أطواره وشؤونه، من لدن كان جنيناً حتّى آخر الحياة، وأنّ من توكّل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.
• الاعتبار بتطوّر ظروف الحياة، وتداول الأيّام بين الناس،


93


فكم فقير صار غنياً، وغني صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلّطاً.
• التنبّه إلى عظمة القدرة الإلهيّة في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالّة على قدرة الله عزَّ وجلّ، وأنّه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكّل والاعتماد دون سواه.

6- من آثار التوكّل:

عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله"49.
وفي رواية: "من أحبّ أن يكون أتقى الناس..."50.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه"51.
وعن الإمام الباقرعليه السلام: "من توكّل على الله لا يغلب، ومن اعتصم بالله لا يهزم"52.


94


هوامش
1- كنز العمال, ج12 ص 117.
2- روضة الواعظين, ص 153.
3- الروض النضير في معنى حديث الغدير, ص 250.
4- بحار الأنوار, ج43 ص 284.
5- بحار الأنوار, ج43 ص 273.
6- الإرشاد, ج2 ص 127.
7- بحار الأنوار, ج26 ص 267.
8- بحار الأنوار, ج 77 ص 341.
9- بحار الأنوار, ج 46 ص 147.
10- بحار الأنوار, ج44, ص 189.
11- الإمام الحسين سماته وسيرته, ص 30.
12- الأخلاق الحسينيّة, ص 275.
13- كشف الغمّة, ج 2 ص 236.
14- ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر, ص 231.
15- تاريخ الطبري, ج 4 ص 301.
16- بحار الأنوار, ج44, ص 147.
17- كتاب الفتوح, ج5 ص 21.
18- عوالم الإمام الحسين, ص 59.
19- مثير الأحزان لابن نما, ص 36.20- عوالم الإمام الحسين, العلامة البحراني,ص 159.
20- عوالم الإمام الحسين, العلامة البحراني,ص 159.
21- سورة النساء, آية 114.
22- سورة المائدة, آية 91.
23- الكافي, ج2ص 344.
24- كنز العمال, ج9, ص 37.
25- الكافي, ج2 ص344.
26- الكافي, ج2 ص 346.
27- الصحيفة السجادية. ص99.
28- الكافي, ج2 ص209.
29- الكافي, ج2 ص 209.
30- الكافي, ج7 ص 47.
31- جامع السعادات, ج 2 ص 216.
32- ثواب الأعمال, ص 148.
33- الكافي, ج2 ص 209.
34- مستدرك الوسائل, ج 13 ص 443.
35- الكافي, ج2 ص 210.36- بحار الأنوار، ج‏68، ص‏151.
36- بحار الأنوار، ج‏68، ص‏151.
37- سورة الطلاق: آية 3.
38- سورة آل عمران: آية159.
39- سورة التوبة: آية 51.
40- سورة آل عمران: آية 160.
41- أصول الكافي، ج‏2 ص‏65.
42- وسائل الشيعة، ج 15 ص 212.
43- الكافي, ج 2 ص 65.
44- الخصال، ص‏122.
45- الأربعون حديثاً الإمام الخميني, حديث التوكل.
46- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد, ج 11 ص 201.
47- أصول الكافي، ج‏2 ص 65.
48- بحار النوار, ج 68 ص 156.
49- أمالي الصدوق, ص 381.
50- بحار الأنوار، ج‏68 ص 151.
51- المصدر نفسه.
52- المصدر السابق.