المحاضرة الرابعة: خصائص الحكم الشرعيّ

تصدير الموضوع:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."1.

الهدف:

بيان بعض الخصائص التي تميز الحكم الشرعي من غيره من الأحكام والقوانين الوضعية.


271


المقدَّمة
الحكم الشرعي يتميز بمجموعة من الخصائص تميزه من غيره والتي من أهمها:
أولاً: شمولية الخطاب للجميع: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ2، فالخطاب الإلهي المتضمِّن للأحكام الشرعية خطاب متعلِّق بذمم الجميع بدون استثناء إلا من خرج بالدليل كالصغير والمجنون، وهذا الخطاب مهمته تنظيم أفعال العباد والتحكُّم بسلوكياتهم لما في ذلك من نفعهم ونفع مجتمعاتهم، ولذلك فإنّ الحروج عن هذه الضوابط الشرعية خروج عن محورية الله وأصل وجود الإنسان في الأرض والتقيد بالحكم الشرعي هو عينه تعبيد الناس لربهم، وهذا كان غاية الخلق مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ3.


272


ويدلُّ عى هذه النقطة كذلك الآيات التي خاطبت المسلمين في كلِّ شؤون حياتهم كقوله تعالى ﴿أَقِيمُواْ و﴿آتُواْ و﴿اجْلِدُوا و﴿لاَ تَأْكُلُواْ وغير ذلك من النصوص التي توجب على كلِّ مسلم أن يتقيد بكلِّ حكم شرعي.

ثانياً: شمولية الرسالة لكلِّ شأن من شؤون الحياة: فالرسالة الإسلامية عندما شملت كافَّة جوانب الحياة إنما أدخلت ثقافة التقيد بالحكم الشرعي
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ4 فالشريعة لم تغادر شأناً مهما دقَّ أو جلَّ إلا بيّنت له حكماً، وهذا يجعل المكلَّف مقيّداً بالحكم الشرعي في كل جوانب حياته ويجعل التقيد بالحكم الشرعي سجية دائمة له.

ثالثاً: صلاحية الحكم الشرعي لكلّ زمان ومكان: وهو ما أشارت إليه النصوص من أنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة، أمَّا ما يحاول البعض


273


من إثارته في خضمِّ حملة الهجوم على التقييد بالأحكام الشرعية فيصفونها بأنها جاءت لوقت محدد ولزمان معين ولمجتمعات محددة وانها غير صالحة لكل زمان ومكان، فهذا القول ساقط من الإستدلال والإعتبار، وهو قول لا يعي طبيعة الأحكام الشرعية وطبيعة معالجة الإسلام للمشاكل البشرية.

واليوم نشاهد حجم الهجمة الشرسة على أحكام الرسالة الإسلامية ونعتها بالتخلف تارة وبالعنف أخرى وبصلاحيتها للفترة الجاهلية ثالثة وسواها من الإفتراءات التي تستهدف الإساءة لهذا الدين الحنيف.

والتقيد بالحكم الشرعي له روحيته الخاصة وقاعدته الصلبة التي ترتكز على التقوى والإيمان بالله والاعتقاد الثابت والراسخ بما أنزل الله تعالى، والتي تجعل الإنسان المؤمن مرآة للحكم الشرعي وصورةً عنه في قوله وفعله وسلوكه، وإذا كان المحرك والدافع للمسلم على الإلتزام والتقيد هو التقوى فإنها تجعل المرء يتقيد بالحكم


274


الشرعي في الغنى والفقر وفي السرّ والعلن وفي الشدة والرخاء وفي القوة والضعف وفي كلِّ حال، وما أكثر ما نشاهد ويحدثنا التاريخ عن أشخاص كانوا متدينين بل في قمة التدين ولمَّا تغيَّرت أحوالهم المادية والمعنوية فقدوا روحيتهم وورعهم وتقيُّدهم بالحكم الشرعي وصاروا بتهانون به شيئاً فشيئاً حتى ابتعدوا عنه وصار غريباً في بيئته الجديدة.

رابعاً: الحكم الشرعي ومصالح العباد: وهي خاصيّة من الخصائص التي يدركها الجميع نظرياً ويغفل عنها عملياً، فإن الله تعبدنا بهذه الأحكام وهو غنيٌ عن طاعتنا ومحميٌّ عن معصيتنا، إلا أن ذلك لم يكن إلا رحمةً منه بعباده وتسهيلاً لحياتهم ودرأً لمفاسد ما قد يصيبهم لولا تعبده لهم، فربط الله الحكم الشرعي بخير العباد في الدنيا والآخرة.

إلا أنّ السرّ الأساسيّ في هذه النقطة أنّ الله جعل هذه المصالح والمفاسد خافية عن العباد وعمد أهل البيت علييهم السلام


275


 إلى عدم بيانها لنا رغم إحاطتهم بهذه العلوم، ويمكن قراءة سرّ الخفاء هنا في هذه المسألة من خلال نقطتين أساسيتين:

الأولى: أنّ خفاء هذه المصالح والمفاسد المرتبطة بالأحكام الشرعية يجعل المرء أكثر إيماناً بالغيب وارتباطاً بالله وتصديقاً للنبي وأهل بيته عليهم السلام لأن امتثاله لها فعلاً وتركاً ليس ناشئاً من علمه بهذه المصالح والمفاسد ,فيُخشى أن يتعدد الداعي إلى الطاعة فيقع المرء في الشرك.

فعندما يعلم المرء أن هذا النوع من اللحوم محرم، ويعلم علة التحريم على سبيل المثال فحينها قد يقوم بترك أكل هذا النوع من اللحم لكونه منهيًّا عنه وكونه يحمل الضرر الذي يعلمه فيتعدد الداعي ويفقد إخلاص النية، وقد يجره ذلك إلى أكثر من النيَّة بحيث لو سأله شخص عن حلية أو حرمة هذا الطعام فيجيبه أنه محرم للغلة الفلانية، وبالتالي يصبح داعياً الى تقديس العلم أكثر منه داعيةً للإيمان بالغيب..

الثانية: أن النفس الإنسانية تتوق إلى ما خفي عنها وتنجذب إليه، فالله تعالى عندما أخفى المصالح والثواب والعقاب والرضا والإبتلاءات والأعمار والأرزاق وغيرها من الأمور المهمة


276


 جعل الناس تسعى جاهدةً لتحصيل ما هو أكثر لاحتمالها بأن أعمالهم لم تبلغ غاية رضاه، ولو اطلع العباد على ما أخفى الله عنهم لجلس كلٌّ في منزله ينتظر قضاء الله.

إن خفاء المصالح يجعل المرء أكثر سعياً لتحصيل هذه المصالح المجهولة تفصيلاً المعلومة إجمالاً عنده، فهو يعلم إجمالاً بصلاحه بها لكنه يجهل تفاصيل المصلحة التي يتعلق بها كل حكم من الأحكام.

بركات الالتزام بالحكم الشرعي: قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا5.

ومن الواضح أن الآية في مقام اللوم من جهة وتبيان أن


277


الحريصين على الالتزام بالحكم الشرعي قلة من الناس، ثم تبين الآية بعض بركات هذا الالتزام وآثاره في الإنسان:
١- استدرار الخير: قال تعالى
﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم6، فالإلتزام يحوِّل كلَّ شيء إلى خير لإنه يجعله في عين الله ويحتسبه عنده فهو مصدر الخير.

٢- الثبات على الدين: قال تعالى:
﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا7، والالتزام يجعل من شخصية الإنسان شخصية ثابة في الفعل والقول والسلوك وكافة تحديات الحياة.

٣- عظيم الأجر والثواب: قال تعالى:
﴿وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا8، وهذه من بركات الآخرة أي عظيم الدرجات البركات.

٤- هداية الصراط المستقيم: قال تعالى:
﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا9، ولعلَّ المراد به صراط التوحيد والطلعة لولاية أهل بيت العصمة.


278


٥- مجاورة الأبرار في الآخرة: قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا10، وقال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا11، ولا شك أنّ المراد بالماء كل ألوان الحياة، كما تدخل الطمأنينة والسعادة على نفوس البشر وتصون الأهداف العليا للمجتمع، فنظام الخالق سبحانه هو الكفيل دون سواه لأن يسعد البشرية أفراداً وجماعات وهو الكفيل والضامن وحده بتحقيق القيم البشرية جميعها من قيمة روحية وخلقية وإنسانية ومادية، ولقد عاش المسلمون في ظل التقيد والإلتزام بالأحكام الشرعية وتطبيقها، في ظل سيادة الشرع على ما سواه، عاشوا حياةً لا نظير لها في ظل مجتمع متناغم يحفظ الحقوق ويقيم العدل فعمَّ الهناء والأستقرار المسلمين والبشر.


279


هوامش

1- سورة الانفال، الآية: 24.
2- سورة سبأ، الآية 28.
3- سورة الذاريات، الآية 56.
4- سورة النحل، الآية 89.
5- سورة النساء، الآيات 66 ـ 70.
6- سورة آل عمران، الآية 110.
7- سورة النساء، الآية 66..
8- سورة النساء، الآية 67.
9- سورة النساء، الآية 68.
10- سورة النساء، الآية 69.
11- سورة الجن، الآية 16.