المحاضرة الثالثة: ثقافة براءة الذمَّة

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ1.

الهدف:

بيان بعض الأدلَّة لا سيما الآيات التي توجب الالتزام بالحكم الشرعي.


263


المقدَّمة
عندما يصدِّر مراجعنا الأعلام رسائلهم العملية بعبارتهم المشهورة (إنّ العمل بهذه الرسالة مبرئ للذمة) فهذا يعني أنَّ التقيد بالأحكام الشرعية الواردة في هذه الرسالة ينبعي أن يكون تقيُّدًا دقيقاً وأنّ الخروج عن هذه الأحكام سوف يُبقي المكلَّف مشغول الذمة، وهذه الثقافة أي ثقافة براءة الذمة ليست منحصرة في الجانب الفقهيّ بل تتعداه إلى كافة مجالات الحياة الأخلاقية والتجارية والإقتصادية وغيرها من ساحات التكليف.

إنّ براءة ذمة المكلَّف يجب أن نعيشها هاجساً حقيقياً ويومياً في حياتنا لأنَّ الاستخفاف بتفاصيل الأحكام قد يؤدِّي بصاحبه إلى التجرؤ على حدود الله من جانب كما قد يؤدِّي إلى استصغار هذه الذنوب التي قد تتراكم شيئاً فشيئاً حتى تصل بصاحبها إلى ما هو أكبر حرمة وأشد انتهاكاً لأحكام الدين الحنيف.


264


محاور الموضوع
والنصوص الشرعية الصريحة دلّت على وجوب التقيد بالحكم الشرعي وعلى وجوب تحكيمه واعتبار الخروج عنه معصية، كما نرى أنّ الشريعة سنّت على بعض المعاصي عقوبات في الدنيا فضلاً عن الآخرة تحصيناً للمجتمع واستحكاماً لمناعته حتى لا يتجرَّأ من سوّلت له نفسه التفلُّت من الإلتزام ولو بحكم شرعي واحد.

ونستعرض هنا بعض هذه الآيات التي دلت على وجوب التقيد بالحكم الشرعي والنهي عن أيِّ حكمٍ سواه:
١- الحكم وعدم اتباع الهوى: قالى تعالى:
﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ2، والآية توحي بأنَّ أيَّ خروجٍ عن الحكم الشرعي إنما هو دخول في اتباع الهوى ولذلك أكملت الآية بالتحذير من هذه الفتنة التي تعني التنكُّر لبعض آيات الله.


265


وقال تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ3، وهنا جعل الهوى نقيض الحق، وهذا يعني أن التقيد بالحكم الشرعي ملازمٌ للحقّ.

ولم يقف الأمر عند هذا الطلب بل ولبيان أهمية الحكم بالإسلام وصفت الآيات من لم يحكم بما أنزل الله بأنه كافر وفاسق وظالم
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ4 وفي آية أخرى ﴿الظَّالِمُونَ وفي آية ثالثة ﴿الْفَاسِقُونَ.

٣- الحكم الشرعي وعدم الخيارت الأخرى:
أوجب الشارع الحكيم على المسلم أن يتقيد بالحكم الشرعي وأن يُحكِّم الإسلام في كلِّ شأن من شؤونه وأن لا يتخير التقيد بل يلتزم به إلتزاماً واجباً بدون ان يكون له خيرة من أمره فقال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ


266


اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا5، فالحكم الشرعي ليس خياراً بين عدة خيارات يلتزم المرء بأنفعها له كما نرى بعض الناس الذين يتمسِّكون بالشرع ما دام الشرع إلى جانبهم ويتنكَّرون له إذا مسّ مصالحهم.

٤- الحكم الشرعي عدم الشعور بالحرج:
قال تعالى:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا6، فالإسلام نفى الإيمان عمَّن لا يتقيد بالحكم الشرعي ويجعله مرجعيته عند التنازع والإختلافات بل أكثر من ذلك فإن المؤمن لا يجد في نفسه حرجاً مهما كان الحكم الشرعي وهذا دليل انصهاره بالحكم الشرعي وزيادةً على ذلك فإنه يسلّم به تسليماً مطلقاً كما دلّت الآية الكريمة.

٥- عدم التحاكم إلى الطاغوت:
قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ


267


مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا7.

وفي الآية توبيخ صريح لأولئك الذين يتحاكمون إلى الطاغوت إذ اعتبرهم الله أنهم يزعمون الإيمان ويدعونه، وهم بتحاكمهم إلى الطاغوت إنما يتبعون قول الشيطان حسب المفهوم من الآية المباركة، ومن الطبيعي أن يكفروا به لا أن يتحاكموا إليه فنكون بذلك أضفينا على الطاغوت العدل والنزاهة فنزيد في سواده ويزرنا وزره بدون أن نشعر بذلك.

٦- الحكم ووجوب التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيت العصمة عليهم السلام
في كلّ شأن من شؤوننا ووجوب أن نأخذ كلَّ ما جاء به الرسول والإنتهاء عمَّا نهى قال تعالى
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ


268


وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا8، وللتأكيد على ضرورة التقيد بما ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حذَّرنا سبحانه من مخالفة أمره مما يعرِّضنا للعقوبة والفتنة، قال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ9.

فهذه الأدلة وغيرها الكثير تدلُّ على وجوب التقيد بالحكم الشرعي ووجوب أن تكون حياة المسلم قائمة على الإلتزام بالشرع وعلى وجوب أن يطبق الحكم الشرعي.


269


هوامش

1- سورة الحشر، الآية 8.
2- سورة المائدة، الآية 49.
3- سورة المائدة، الآية 48.
4- سورة المائدة، الآية 44.
5- سورة الأحزاب، الآية 36.
6- سورة النساء، الآية 65.
7- سورة النساء، الآية 60.
8- سورة الأحزاب، الآية 21.
9- سورة النور، الآية 63.