المحاضرة الأولى: معايير التفقُّه في الدين (١)

تصدير الموضوع:
فقد ورد في الحديث: "الكمال كلُّ الكمال التفقُّه في الدين..."1.

الهدف:

الحثُّ على التفقُّه في الدين لما في ذلك من أهمية تسليط الضوء على الحكم الشرعي بشكلٍ دقيق.


247


مقدَّمة
إنَّ تسليط الضوء على التفقه لغةً يبيِّن لنا مفهومه الشرعيَّ بشكلٍ أوضح، فالتفقُّه لغةً لا يعني التعلُّم فحسب بل فقه الأمر بمعنى استوعبه وفهمه وأدرك أبعاده وأحاط بكافَّة جوانبه، وفلان أفقه أهل زمانه معناه أكثرهم فهماً للمطالب وأقوى استدلالاً عليها، وتقول إنَّ تفقه فلان في العلم كان يثير الإعجاب مما يكشف أن التفقُّه يعني نوع العلم وعمقه وليس إشارة إلى مطلق غزارة علمه فحسب.

ومن هنا فإنَّ الفقاهة تعني فهم المرويات ودلالاتها وأبعادها وكيفية تطبيقها في ميادين الحياة فقد ورد قوله صلوات الله عليه: "أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا..."2.

فما يجعلك فقيهاً بل أفقه الناس أن تدرك معاني كلامهم، بمعنى أنَّه كلَّما وعى المرء دلالات كلمات المعصومين كلما ازداد فقاهةً، وكلَّما أخذ النصوص على ظاهرها دون سبر أغوارها كلَّما كانت فقاهته ضعيفة لا تركن إلى سدٍّ منيع.


248


محاور الموضوع
أهمية التفقُّه في الدين

ومن خلال الوقوف على بعض النصوص نجد الأهمية القصوى التي أولتها هذه النصوص للتفقُّه في الدين، ومن أبرزها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التفقُّه روح العبادة"3، فالعبادة بلا تفقه عبادة لا روح فيها فهي لا ترقى بصاحبها في معارج الكمال ولا تقربه من الله تعالى.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قليل الفقه خير من كثير العبادة4، فقليل الفقه مع العبادة خير من كثرة العبادة بلا تفقُّه".

بل يُعتبر التفقُّه ضرورة للعبادة، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "لا عبادة إلا بتفقُّه"5. وهذا معنى ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "بعضكم أكثر صلاةً من بعض،


249


وبعضكم أكثر حجاً من بعض، وبعضكم أكثر صدقةً من بعض، وبعضكم أكثر صياماً من بعض، وأفضلكم أفضل معرفة"6.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة"7.

التفقُّه في الدين مطلق الخير

وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر فيه التفقَّه عبادة بحدّ ذاته فيقول: "خير العبادة الفقه"8.

والحديث عن التفقُّه في الدين ليس حديثاً عن حسنات أو درجات، بل هو حديث عن عباءة الخير التي تنطوي تحتها مكارم الأخلاق وفضائلها وعلوّ الدرجات وكمالاتها وكرامة الدارين وحصن الله المنيعة فالوصول إلى مقام التفقه وصول إلى مقام رفيع عدّته الشريعة علامة العناية الإلهية الخاصَّة بالإنسان إذ قال عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيرًا فقَّهه في الدين"9.


250


فالخير في نظر الله تعالى لا يعني المال والثروة والسلطة والعلاقات وغيرها مما يسعى بنو البشر لاكتسابها وهماً منهم أن يسعَوْا نحو الكمال والرقي الإنساني وراحة البال والطمأنينة، في حين نرى أنّ الخير من وجهة نظر الإسلام يعني العلم والمعرفة والتفقُّه في الدين والإحاطة بمعارف الشريعة.

أو مما أوصى به الإمام الباقر عليه السلام لإبنه الإمام الصادق عليه السلام: "يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرًا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنَّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً"10.

التفقُّه في الدين والمعايير العامَّة

ولعلَّ البعد الأهم في موضوع التفقُّه في الدين هو بعض المعايير العامَّة التي ينبغي مراعاتها عند قراءتنا لأيّ نصّ حتى تكون هذه القراءة قراءة واعية، ومن أهمِّ هذه المعايير:
١- التثبُّت من النصّ: أي ضرورة التحقُّق من النصّ بالرجوع إلى الينابيع الأصيلة والأصول التي تتمتع بالوثاقة وجعلها


251


الله مصدراً من مصادر العلم والمعرفة، والتأكد من حرفيَّة النصّ، فمع الأسف نجد اليوم آلاف الأحاديث التي تُبثُّ على شبكات التواصل وفي الكتب ومختلف الإصدارات بدون رقيب أو حسيب ويتناقلها الجميع سواء بحسن نية أو بسوء نية وتنتشر في أرجاء العالم بسرعة هائلة، ولو رجعت إلى المصادر الأساسية لا تجد لها أيَّ أثر.

ففي الحديث: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنَّة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردَّته الرجال، من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكَّب الفتن، من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"11.

٢- التثبُّت من المعنى:
وكما يجب التأكُّد من النصّ يجب التأكُّد من المعنى من أساطين العلم والفقاهة وكبار علمائنا الموثوقين، فإنَّ أمتنا اليوم تعاني من نشر معانٍ


252


جديدة للنصّ الديني وفهمٍ قد يناقض المعنى الذي أجمع عليه كبار العلماء وأساطين العلم في الحوزات العلمية، وهذا يتطلب من المتمسِّك بدين الله أن يكون عارفاً عالماً بوجوه المصالح والمفاسد، ذا بصيرة كاملة في التمييز بين الحقّ والباطل، ويملك أرضية صلبة لبنيانه العلمي والديني ليكون ثابتاً راسخاً فيه بحيث لا تغيره رياح فتن المخالفين ولا يحركه صرصر شبهات المعاندين.

٣- التثبُّت من سياسات النصّ:
وهذه النقطة من أخطر النقاط وأشدِّها فتكا وتدميراً للصرح الثقافي حيث يلجأ البعض إلى التمسك ببعض ظواهر النصوص وتفسيرها كما يحلو لهم ومن ثَمَّ توظيفها في المكان الذي يصبُّ في مصالح الأعداء، وهؤلاء بعضهم يقوم بهذا العمل المدمِّر عن سذاجة وبساطة وبعضهم سخّر لنفسه ليكون صادحاً بالكلام الحقّ الذي يُراد منه باطل، وفي هذا السياق الجديد القديم نجد أن أئمتنا قد انتبهوا إلى هذه المعضلة وحذَّروا شيعتهم من الوقوع في شراكها، فنقرأ في روايةٍ


253


عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "لا خير فيمن لا يتفقَّه من أصحابنا يا بشير، إنَّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم"12.

٤- التثبُّت من عقلانية النصّ:
وهذه النقطة وإن كانت تندرج تحت سياسات النصّ الديني لكن كونها من الأهمية بمكان أفردتها بعنوان خاصّ، والمراد بها ضرورة الابتعاد عمَّا يستنكره العقل ويمجه الذوق وتأباه الفطرة السليمة سواء على مستوى اللفظ أو المعنى، لأنّ نسبة بعض الألفاظ المقيتة إلى المعصوم أو بعض المعاني المستغربة عن أناس عاديين فضلاً عن المعصومين، من شأنه أن يُشوّة الصورة الرائعة للدين، خاصّة في هذه الأيام التي يتعرض فيها الدين لأبشع عملية تشويه عبر التاريخ.


254


هوامش

1- الكافي، الكليني، ج1،ص33.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2458.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2459.
4- المصدر نفسه، ص2459.
5- م.ن، ص2459.
6- م.ن، ص1870.
7- م.ن، ص1870.
8- م.ن، ص2459.
9- ميزان الحكمة، ج1، ص841.
10- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص306.
11- المصدر نفسه، ص7.
12- شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 2 - ص 33.