المحاضرة التاسعة: فتنة الدين في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا1.

الهدف:

الإطلالة على بعض مضامين قصَّة أهل الكهف كنموذج من نماذج فتنة المرء بدينه.


237


المقدَّمة
من القصص الخالدة التي حدثنا القرآن الكريم عنها قصة الفتية الذين آووا إلى الكهف لينجوا بدينهم من الملك الظالم، حيث مارست السلطة عليهم أشد أنواع التضييق والتعذيب ومحاصرتهم كي يرضخوا ويستسلموا لإرادة الحاكم الجائر ففرُّوا بدينهم بعد أ، أعلنوا ولاءَهم بشكلٍ واضح أنهم على دين التوحيد والإيمان بالله الواحد القهَّار، كما يحدثنا القرآن الكريم أنهم آووا إلى الكهف حتى يستتروا عن أعين السلطة التي كانت تلاحقهم في كل مكان، وفي ذلك الكهف حيث حفظتهم الإرادة الإلهية من كل سوء حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاثمئة سنة وازدادوا تسعا على قيد الحياة وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد، فبعثهم الله مجدداً تقويةً لإيمان الموحِّدين ودلالةً على قدرة الخالق وتكريماً لمقاماتهم وتخليداً لذكراهم.


238


محاور الموضوع
ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية عصمة المرء نفسه من هذه الفتنة، قال تعالى: ﴿
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا2.

١- ملازمة الجماعة المؤمنة:
قال تعالى: ﴿
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ3، فإن ملازمة الجماعة وإن كانت تحتاج الى الصبر والثبات، لكنها سبيل عدم الانجراف في أمواج الضلالة والابتعاد عن الله، فإنَّ أهل الكفر يستسهلون مواجهة الفرد ولا يقدرون على


239


جرف الجماعة المؤمنة بالله تعالى، ومن هنا كان الحديث الشريف أن من خرج عن الجماعة.....

٢- الإخلاص لله:
قال تعالى: ﴿
يُرِيدُونَ وَجْهَه4، فأهل الإيمان الذين يُمتحنون بإيمانهم يتحمَّلون مختلف أنواع العذاب والمشقَّات يتوسَّمون رضا ربهم والإخلاص له ويطمعون بما عنده لا ما عند سواه، فهم الذين امتلأت قلوبهم محبةً وعشقاً لمولاهم فهان عليهم ما يكابدون واستسهلوا في هذه الدار الفانية ما يعانون ابتغاء وجه الله الذي لن يبقى سواه بعد فناء كل شيء.

٣- عدم الرغبة بمباهج الحياة الدنيا:
قال تعالى: ﴿
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا5، وفي الآية تحذير شديد ليس من ترك الجماعة فحسب بل مما هو أقلُّ من ذلك بكثير، تحذير من سبق العين إلى ما متع الله به أهل العصيان فتعجبك أموالهم وأولادهم وقصورهم فيدخل


240


في قلبك بعض الشكّ والتأثر ويستتبعه بعض التمني فيسوِّل لك الشيطان بعض ما عندهم، ثم شيئاً فشيئاً يجد المرء نفسه في أحضان المعصية والابتعاد عن الله.

٤- عدم طاعة أهل الغفلة:
قال تعالى: ﴿
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا6، والتحذير الثاني الذي ينبغي أن يبقى المرء واعياً له مدركاً لعدم السقوط فيه هو عدم التأثر بأهل الغفلة الذين طبع الله على قلوبهم فباتت محجوبةً عن الهداية ونعمة التقرب وعبدت أهواءها ومشتهياتها واتبعت سبيل الغيِّ والفساد فسقطت في حضيض الفسق والفجور وكان أمرها إلى الضياع والدمار.

٥- التزام الحق قولاً وعملاً:
قال تعالى: ﴿
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ7، وهو أفضل الجهاد بل يعلو جهاد المجاهدين في ميدان المعركة لأنه الجهاد الأكبر حقيقة أن يقول المرء


241


الحق دائماً مهما كانت النتائج والتبعات وأن يبقى ثابتاً عليه مهما اشتدت الابتلاءات وقست الظروف وضاقت عليه الأرض بما رحبت، والإيمان بأن الله ناصرٌ عباده الصالحين ومدافعٌ عنهم ولن يكتب لهم إلا ما فيه خيرهم وخير دينه في الدنيا والآخرة.

٦- عدم التدقيق في نتائج الأمور:
قال تعالى: ﴿
فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ8، ولعلَّ هذه الآية إشارة إلى ضرورة ألا تذهب نفسك عليهم حسرات، فعلى المرء أن ينير الدرب أمام الآخرين ويَهديَهُم سبيل الرشاد، أما إذا استحبوا الضلالة على الهدى والطغيان على الإيمان فذلك شأنهم وخيارهم وإنما أقدموا عليه بملء إرادتهم وأمرهم بعد ذلك إلى الله المتعال.

٧- اليقين بالعدل الإلهي:
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ


242


الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا9، وفي ختام الآيات يأتي الرد الإلهي قاسياً حازماً متوعداً أهل الضلالة بالعذاب ومثبتاً أهل الإيمان على إيمانهم، وأن الظالمين يسيرون نحو مصيرٍ محتوم ومؤكَّد لا ريب فيه وهو العذاب الذي لا يُخفَّف عنهم، ولا تنفعهم استغاثتهم بل تزيدهم عذاباً فوق العذاب.

وقصَّة أهل الكهف بما تمثل من مصداق حقيقي للهاربين بدينهم والمتمسِّكين به رغم قسوة السلطة عليهم تكشف في نهايتها عن أن الله لا يمكن أن يترك أولياءه، بل وإنّ التدخل الإلهي أمرٌ محتم لإنقاذ الدين أولاً وعباده ثانياً كما يروي لنا الكتاب الكريم كيف أنامهم الله سنين طويلة ثم أيقظهم بعد أن استتبَّ الملك لأهل ديانتهم ليكون معجزةً وعبرةً خالدة على مرّ السنين.

مثال آخر للمفتونين بدينهم

وهذه القصَّة نقرأ مثيلاً لها في حياة نبي الله موسى عليه السلام حيث يقول تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ *


243


فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ10، الذي خرج من مصر مع أتباعه لينجوا بدينهم من فرعون وظلمه وبطشه وطاردهم فرعون شخصياً إلى أن حاصرهم في ذلك الابتلاء الشديد على شاطئ البحر حيث البحر أمامهم وفرعون يتراءى لهم وهو يقترب منهم سريعًا من الخلف، إلا أن ثباتهم وتوكلهم على الله وإيمانهم بالغيب والمدد الإلهي في هذه اللحظة التي لا تثبت فيها إلا أقدام الصفوة من العباد الصالحين حوّل المشهد إلى معجزةٍ خالدةٍ حيث أوحي الله إلى موسى بفلق البحر بعصاه لتكون النهاية نجاة موسى وأصحابه وبالتالي نجاة دين الله وهلاك فرعون وأصحابه في قعر المياه.


244


هوامش

1- سورة الكهف، الآية 9.
2- سورة الكهف، الآيتان 28 ـ 29.
3- سورة الكهف، الآية 28.
4- سورة الأنعام، الآية 52.
5- سورة الكهف، الآية 28.
6- سورة الكهف، الآية 28.
7- سورة الكهف، الآية 29.
8- سورة الكهف، الآية 29.
9- سورة الكهف، الآية 29.
10- سورة الشعراء، الآيات 60 - 67.