المحاضرة الثامنة: فتنة الإنهزام النفسي في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ1.

الهدف:
التأكيد على أهمية الروح المعنوية العالية للأمة وأنها أحد أهداف الحرب النفسية التي يقودها الأعداء ضد أمتنا الاسلامية.


227


المقدَّمة
نلاحظ الاستهجان والاستغراب في لسان الآية المباركة حول فعلة هؤلاء القوم وذلك من خلال السؤال الإنكاري في قوله تعالى "ألم تر؟".. كثيراً ما تكون الهزيمة النفسية التي يعمل الأعداء عليها ليل نهار والتي تسبق المواجهة العسكرية سبباً في ابتلاء الأمم والشعوب بالهزائم العسكرية وترك الديار على غير هدى وخسارة الأوطان والتشتت في الآفاق ومفارقة الأهل والولد والأحبة بسبب فقدها عنصر الروح المعنوية العالية التي تصنع من الأمة قلعةً قوية في مواجهة الأعداء.

فإنَّ أيَّ مجتمع وإن كان لديه الأسباب المادية للنصر وكان بإمكانه أن يصمد أمام الغزاة ولكنه يحمل في جنباته النفسية الخائرة المهزومة لأبنائه تجعله يترك دياره للغاصبين لقمة سائغة وهذا ما نشهده في كثيرٍ من الشعوب ويحدثنا التاريخ عن أمم بادت لخوائها النفسي والروحي، فاستحقت بذلك الموت المعنوي والحقيقي.


228


ومن خلال هذه الآية يمكن الوقوف على عدة أمور:
الأول: إن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم إنما خرجوا بإرادتهم واختيارهم، فهم اتخذوا قرار الخروج بدون إجبار أو إكراه.

الثاني: والذي هو محل استغراب هو خروجهم من ديارهم، إذ الأصل أن يكونوا مدافعين عن ديارهم متحصّنين بها مستبسلين للحفاظ عليها، لأنها في أعينهم عزيزة وغالية لا يغادرها أهلها بهذه السهولة، ثم لا يحدثنا القرآن الكريم عن وجهتهم في الخروج فهُم خرجوا إلى الشتات، إلى التيه والضياع بكل ما يستلزمه هذا الخروج من مهانة وذلّ وتقشُّف وضياع واستهانة بالكرامات واستخفاف الناظر إليهم.

الثالث: أنهم خرجوا وهم ألوف فلو كانوا عشرات أو مئات لكان لهم بعض العذر ولكنهم آلاف لا بل ألوف وهي


229


جمع كثرة حيث غادروا ديارهم وهم بعشرات الألوف أو بمئاتها - والله العالم - ومن المعلوم عسكرياً أن عشرات الألوف المتحصِّنين في ديارهم يواجهون مئات الألوف من الغزاة وهم الأعلم بقُراهم ومداخلها ومخارجها ونقاط ضعفها وقوتها والخبراء بخطط المحافظة عليها.

الرابع: أنهم يخرجون حذر الموت فلم يكن خطر الموت والقتل ماثلاً أو واقعاً بهم ولا حتى متوقعاً، فهم لم يشاهدوا المجازر ولم تُرتكب بحقهم الإعدامات مثلاً، بل خرجوا اقتضاء الحذر والاحتياط من خطر قد يحلُّ بهم، وهنا الشاهد الأكبر على نفوسهم الضعيفة وانهزامهم النفسي والمعنوي فنراهم يُغلِّبون الاحتمال الضعيف وهو الموت ويتجاهلون الاحتمال القوي وهو النصر ورد الغزاة خائبين إن هم واجهوهم.

اختبار الروح العالية عند الجيوش

ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الروح العالية وضرورة اختبارها في الجند فيقول تعالى: ﴿
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ


230


يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ2.

ويُدرك طالوت أنّ في جيشه من التحق به خجلاً أو بدون إيمان واقتناع، وأنّ فيهم المنافقين ومرضى القلوب وضعاف النفوس الذين إذا كانوا في الجيش زادوهم خبالاً … فكان لا مناص من استثنائهم عبر اختبار مدى العزيمة والروح العالية فقال لهم إنَّ الله مختبرهم بنهر فمن شرب منه فليس من طالوت وليفارق الجيش، وأما من يصبر ولم يشرب أو شرب


231


غرفة بيده فهو فقط الذي يُسمح له بالاستمرار - وهذا الاختبار ليس إلا لأمرٍ واحد وهو تثبيت معادلة عدم الإنهزام النفسي وأن من لا يصبر على الماء لا يرجى منه أن يصبر إذا حمي الوطيس وأشرعت الحرب أسنتها … والذي لا يطيع قائده في الأمر الصغير فلن يطيعه في الأمر الكبير … وتحكي الآيات نكوص أكثرية الجند وقعودهم إذ شربوا من النهر … ولا يبقى مع طالوت إلا اقل القليل وينظرون إلى أنفسهم فيستصغرونها أمام جحافل جالوت بعددهم وعُددهم وللوهلة الأولى يشعرون بالخوف ويقولون ﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ3. فلو تأخر القتال كي نزيد عددنا وعتادنا، إلا أن رد أصحاب النفوس العالية والمنتصرة يأتيهم مذكّراً, رد هؤلاء الذين يظنون انهم ملاقو الله ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ4 فيذكرونهم بالقانون


232


الرباني بأن النصر ليس حليف كثرة العدد والعتاد وإنما النصر حليف النفوس الأبية والمؤمنة، وإذا أذن الله لفئة بالنصر فإنها تغلب الفئة الكثيرة والله مع الصابرين … إن موازين الدنيا كلها ليست هي التي تحدد المنتصر من المنهزم، ولكن مشيئة الله هي التي تقرر ذلك وبالتالي فلا نصر لمن لم يرد الله نصره ولو كان معه كل القوى العظمى في العالم، ولا هزيمة لمن أراد الله نصره ولو اجتمعت ضده كل القوى الباغية - وحين يلتقي الجيشان يتوجه المؤمنون إلى الله أن يفرغ عليهم صبراً ويثبت أقدامهم وينصرهم ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ5 فهم لم ينسوا حتى في أشد حالات الهول أنهم يقاتلون لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى.. إن القضية إذاً ليست إزالة كافر أجنبي عن حكم الأوطان ثم استبداله بكافر وطني … وإنما إزالة نظام الكفر وظلمه ليحكم شرع الله وعدله. وحين تكون الراية واضحة يستحق الجنود النصر وتحق على أعدائهم الهزيمة بمشيئة


233


الله ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ6... إنه ما إن يدخل الإيمان ساحة الصراع مع الكفر حتى تحل بالكفر وأهله الهزيمة الماحقة سواء كان ذلك الصراع في حلبة القتال والنزال أو في ميدان العقل والفكر "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".. ويبرز من بين المجاهدين جندي شاب يقتل قائد الأعداء - جالوت - فتتضاعف هزيمة الأعداء وتتأكد ويؤتي الله داود الملك … ذلك أنه لا يصلح للملك والقيادة إلا من كان جندياً ممتازاً … وإذا أراد الله لعبد التمكين هيأ له أسبابه وجعل له من الآيات والكرامات ما يُرسِّخ مكانته في القلوب ليكون هذا الحدث جسراً ربانياً يعبر به داود لقيادة شعبه.. إنّ الإثخان في الأعداء، وزعاماتهم بالذات هو السبيل إلى القيادة والنصر … وهو الأمر الذي أخفقنا فيه حتى الآن بينما نجح فيه الأعداء.

ويأتي التعقيب القرآني ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ


234


بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ7 فلولا أنه سبحانه يدفع الكافرين بالمؤمنين ويسلِّطهم عليهم لتمادى الكفار في غيِّهم وفسادهم … وإذن فلا خوف على العباد والبلاد من مدافعة الكافرين وقتالهم، وإنما الخوف من ترك الكافرين يعيثون فساداً.

إنّ مجتمعاً تنحطُّ فيه النفسيَّات والتفكير إلى هذا الحضيض لا يستحق الحياة ولا الكرامة ولا العزة؛ ولذلك كانت العقوبة أن يموتوا، لقد هربوا من الموت فلاقاهم، ولو طلبوه لوهبهم الله الحياة، هذا الموت قد يشمل الكوارث الطبيعية ومذابح أهل البلاد المضيفة وملاحقة الغزاة الغاصبين في البلاد الجديدة التي هاجروا إليها، ويُشْمَلُ الموتُ المعنوي بالذلة والاحتقار والاستهانة والاستهزاء بهم حيثما حلُّوًا أو ارتحلوا جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلَّام للعبيد. ولكنَّ رحمة الله واسعة وفضله عظيم فهو سبحانه يعيدهم إلى رشدهم، ويهديهم سبيل النصر والعودة، ويدلهم إلى طريق الحياة.. ولكن الأمر


235


ليس بهذه السهولة فهذه الشعوب تكون مبتلاة بقيادات وزعامات تقودها إلى الضلال والهزائم والنكبات وتستمرُّ في الزعامة على الرغم مما سببته من هزائم، وفي أجواء الهزيمة تنشأ قيادات أخرى تستفيد من الوضع الجديد، ويرعاها العدوُّ المنتصر ويمكِّن لها أسباب القبول لدى أبناء شعبها.


236


هوامش

1- سورة البقرة، الآية 243.
2- سورة البقرة، الآيات 249 ـ 251.
3- سورة البقرة، الآية 249.
4- سورة البقرة، الآية 249.
5- سورة البقرة، الآية 250.
6- سورة البقرة، الآية 251.
7- سورة البقرة، الآية 251.