المحاضرة السابعة: فتنة القيادة في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
جاء في سورة البقرة: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ1.

الهدف:

الإطلالة على بعض الخصائص المرتبطة بمفهوم القيادة ومحاولات الأعداء لتشويهها.


217


المقدَّمة
إنّ قضية القائد واختياره وتحديد المواصفات والمؤهلات التي ينبغي أن يتميز بها من الأمور الضرورية في حياة الأمم والشعوب ولما لهذه القضية من تأثيرها المباشر في وحدة الأمة ووعيها وثباتها في وجه التحديات والنكبات.

مناسبة الآية والتفسير

تتحدَّث هذه الآية عن بعض وجهاء قوم بني إسرائيل الذين أتوا إلى النبي الذي كان بينهم وطلبوا منه أن يعين لهم قائدًا يوحِّد صفوفهم في وجه الأعداء، هؤلاء القادة تقدموا بطلبات ثلاثة:
الطلب الأول: هو أن الملأ - وهم القيادات والأشراف - وُسموا بالملأ لأنهم يملأون عيون الناس لمكانتهم ومالهم -أتوا إلى النبي طالبين منه أن يعين لهم ملكاً يجمع شملهم ويوحِّد شتاتهم - قال تعالى: ﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ


218


قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ2.

والطلب الثاني:
وهو أن يقودهم هذا الملك لوحدة صفوفهم تحت رايته وقتال أعدائهم، وهذه إشارة إلى أن القيادة حاجة ضرورية وفطرية قد تلمَّسها هؤلاء سيِّما بعد الهزائم المتكررة التي أصابتهم، والتي غالباً ما تبرز في المجتمع قيادات صغيرة تدافع عن بعض المكتسبات الخاصة والتي لا تحمل همّ الأمة.

والطلب الثالث:
أنهم طلبوا أن يكون هذا القائد شخصية دينية، واعتبروا أن القتال تحت رايته قتالٌ في سبيل الله، بل إن أصل مجيئهم إلى النبي وتكليفه بهذه المهمة الصعبة كاشف عن أنهم إنما أرادوا الغطاء الديني لهذه القيادة بغضّ النظر عن أنهم صادقون أم لا.


219


محاور الموضوع
الحركة المخادعة

وهنا سؤال مهمّ: "لماذا توجهوا إلى النبي يطلبون هذه المطالب وهم كاذبون"؟! بدليل أنهم بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم، وبمجرد أن عيّن طالوت ملكاً عليهم وقائداً عامّاً للجيش رفضوا إمرته واعترضوا عليه مما يعني أنّهم يرفضون الوحدة تحت إمرته، هذه الوحدة التي جاءوا يطالبون بها، وكذلك فإن رفضهم لطالوت الذي اختاره الله واصطفاه عليهم يدلُّ على أنهم غير صادقين في رفعهم راية "في سبيل الله" وقد بين لهم نبيهم ذلك ﴿
إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ3 فهو اختيار الله، فما حقيقة الأمر يا ترى؟ والجواب أنه كان من الواضح عندهم أن المشكلة في تفرقهم وضعفهم هو عدم وجود القيادة القادرة على جمعهم وانضواء الجميع تحت رايتها إلا أن المشكلة في المعايير التي


220


يعتبرونها أساسية في انتخاب القائد واستسهالهم هذا المقام العظيم الذي لا ينجو من فتنته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، ولذلك استنكروا على نبيهم اختياره طالوت قائدًا.

أضف إلى ذلك أنهم لمّا رأوا أن هذه القضية باتت قضية مستحقة أتى زعماء القوم إلى النبي ليفوِّتوا الفرصة على طالوت وأمثاله من القيادات المؤمنة الصاعدة التي لا يرغبون بها، وحرصوا على أن يكون التعيين صادراً عن القيادة الروحية - النبي - ليلبسهم ثوب الدين، ولكن النبي الفطين الحكيم المؤيد بوحي الله، قام بتعيين القائد الذي لا يصلح سواه لهذه المرحلة.

بل أكثر من ذلك وقبل أن يعين الإسم أخذ عليهم العهود أن يقاتلوا بين يديه إن هو عيّن لهم شخصاً لائقاً، وقال لهم إني أخشى منكم النكوص وعدم الوفاء بكلامكم، لكنهم أكّدوا له عزمهم على المضي في هذه المهمة والقتال بين يديه القيادة بين التفكير الديني والتفكير الدنيوي ويقول تعالى على لسان المعترضين على تعيين طالوت قائدًا، علماً أن هذا


221


التعيين تعيين إلهي: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ4...

القيادة في نظر هؤلاء لا بد أن تتوفر فيها شروط ثلاثة:
١- الزعامة التقليدية: والتي تظهر من خلال قوله تعالى، فقولهم ونحن أحق بالمُلك منه يظهر هدفهم سافراً واضحاً وهو أن يكون القائد الأعلى يجب أن يكون واحداً منهم.

٢- الغنى والثراء: وقد دلّ على ذلك قولهم ﴿
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ5، والذي يُظهر في كلامهم الاستغراب والاستنكار وكأنه من المسلّمات الضرورية أن يكون القائد ثرياً وصاحب أموال طائلة، أو قل بالتعبير السائد اليوم من الطبقة الرأسمالية.

٣- التستر بالدين:
ولما كان من الضروري أن تتقنع هذه الزعامة بلباس الدين لما يُكسبها من سيفٍ صارم يُسكت


222


كافة محاولات التغيير ويعطيها الإذن بقمع أي فكرة تغييرية باسم الدين، وهذا غاية ما يتمنونه ويسعون إليه.

ولعله من الأمور التي باتت واضحة اليوم أن الحروب والمعارك تتخذ طابعًا دينيًّا وترتفع فيها شعارات الإيمان والتضحية في سبيل الله والشهادة فتلتهب القلوب للدفاع عن الدين المهدَّد ويسترخصُ الشباب أرواحهم في سبيل القضية المقدسة، ويُقدِّم الناس أغلى ما عندهم حفظاً لكرامتها وشرفها من أن تمسه أيدي الكفار وهم غافلون كل الغفلة عن طبيعة ما يحاك ضدهم، وأن الذي يقاتلون تحت لوائه لا يمتاز كثيراً من عدوهم فذاك ظالم أجنبي وهذا ظالم وطني ليس إلا.

وأمّا من خلال وجهة النظر الدينية فإنّ هناك ثلاثة أمور أساسية تمثل أهمَّ معايير القائد:
الإصطفاء: ولعله أرفع مقاماً من التعيين والتكليف والتوكيل والتفويض، فهو اصطفاء إلهي واختيار رباني، يشاء


223


الله تعالى أن يجعل لطالوت كرامة يزيد فيها من رصيده في القلوب وقبوله في النفوس وليطوع له الرقاب، فتكون آية ملكه وعلامة اصطفاء الله إياه أن يأتي التابوت إلى قومه بني إسرائيل تحمله الملائكة - وهو صندوق فيه بعض آثار لما تركه آل موسى وآل هارون يبدو أن بني إسرائيل فقدوه في إحدى معاركهم التي هُزموا فيها.

العلم:
وليس المراد هنا العلم بفنون القتال وخطط الحرب بل العلم بالأحكام الإلهية والتشريعات السماوية، وأن القائد ينبغي أن يكون عالماً فقيهاً حكيماً ملماً بالقضايا الشرعية وخبيرًا بطرق وأساليب تنفيذها وإجرائها، فهو وساطة في إجراء الأحكام وسلطته ليست سوى الوسيلة لذلك، بل لا نفع في أي مقام ما لم يكن يحمل هذا الهدف السامي والغاية الإلهية.

الشجاعة:
وهي إحدى تفاسير البسطة في الجسم بل الأنسب في هذا الموقع، فإن القائد ما لم يتمتع بالشجاعة المناسبة أو أصابه شيء من الجبن والخوف فإنه سيُبقى أمته


224


في دائرة الذلّ والهوان وتبقى أمةً متقوقعة منبوذة بين الأمم فلا مهابة لأمة لا تحافظ على وجودها بشفرات سيوفها، كما لا خير في أمةٍ يقودها رعاديدها وجبناؤها.


225


هوامش

1- سورة البقرة، الآية 247.
2- سورة البقرة، الآية 246.
3- سورة البقرة، الآية 247.
4- سورة البقرة، الآية 247.
5- سورة البقرة، الآية 247.