المحاضرة الخامسة: فتنة الأولاد  في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء1.

الهدف:

إضاءة على أصل محبة الأولاد والغاية من طلب الولد في القرآن الكريم.


195


المقدَّمة
حبّ الأبناء والفطرة

إنّ حبّ الأبناء أمر فطري، وللناس دوافع مختلفة في تقوية هذا الميل الفطري، ففي المجتمع العشائري يكون الولد مصدراً للاقتدار الأكبر في الإنسان. وفي بعض الموارد يحبّ بعض الناس الولد لكي يكون عوناً عند الشيخوخة والعجز، وأخيراً فإنّ الدافع الآخر هو اعتبارهم الولد امتداداً لوجودهم، أي حينما يلتفت الإنسان إلى انّ حياته ليست أبدية، وسوف يموت بلا ريب فإنّه يعتبر الولد مرتبة ضعيفة من وجوده، ويرى بقاء ولده بعد موته بقاء له وهذه العقيدة تُشعره بالسكينة. ووراء هذه الدوافع المختلفة المذكورة ميل أصيل ومستقل وفطري لوجود الولد في ذات الإنسان، وهذا فارق واضح بين دافعَي حبّ المال وحبّ البنين، فحبّ المال ليس أصيلا، بل هو مراد كوسيلة لرفع الحوائج الأخرى، في حين يمكن القول إنّ الولد مراد أصيل وتتعلّق به إرادة فطرية مستقلَّة.


196


من هنا نلاحظ الذين حُرموا من الولد يلجأون أحياناً إلى فكرة التبني، وكون هذه الفكرة فكرة قديمة في التاريخ نستكشف أن هذه الحاجة حاجة فطرية عند الإنسان. وقد أشار القرآن الكريم في بعض الموارد إلى هذه السنّة، فقد كان أحد الذين تبنّوا ـ كما يتحدّث القرآن هو عزيز مصر الذي حاول أن يتبنّى يوسف عليه السلام، قال تعالى:  ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ2.

كما انّ زوج فرعون التي لم تُرزق ولداً أقنعته بأن يغضّ النظر عن قتل موسىعليه السلام (أيام رضاعته) لكي يكون لهما ولداً، قال تعالى : ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ3.


197


محاور الموضوع
طلب الولد من الله
ورد في عدد من الآيات أنّ بعض الأنبياء طلبوا البنين من الله سُبحانه، أو فرحوا بشدة عندما رزقهم ولدا، ويُعلم من موقف الأنبياء عليهم السلام هذا ـ وهم الاُسوة والقدوة للآخرين ـ أنّ وجود الولد أمر محبّذ وقيّم إجمالاً.

من هؤلاء الأنبياء: النبي زكريا عليه السلام الذي وردت قصَّة حياته في ثلاث سور قرآنية، فقد قال في سورة آل عمران: ﴿
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء * فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ4.


198


وجاء في سورة مريم:
﴿
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا5.

وجاء في سورة الأنبياء:

﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ6.

لقد دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ولداً فرزقه يحيى عليه السلام.

لماذا طلب الولد؟

وهنا سؤال عن الهدف من طلب الولد، هل كان ذلك إبرازاً للميل الطبيعي فحسبُ، أم كان له سبب آخر؟


199


يُستفاد من الآيات أنّه طلب الولد ليرث آل يعقوب ويرفع مشعل الهداية وهّاجاً في هذا البيت، ويكون سلوكه مرضيًّا عند الله، قال تعالى: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا7.

والنبي ابراهيم عليه السلام وزوجه قد فرِحا فرحاً شديداً ببشارة الملائكة بولد لهما، والبشارة الإلهية تدلُّ على حُسن التمتّع بالولد.

في بعض الآيات اعتبر الدعاء للأولاد عملاً محبوباً لدى الأنبياء عليهم السلام أو الصالحين، فقد كان نبي الله ابراهيم عليه السلام يذكر ذريته دائماً ويدعو لهم، ويطلب لهم خير الدنيا والآخرة من الله عزّوجلّ.

لقد دعا إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام عند بناء الكعبة:
﴿
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ


200


وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ8.

ودعا في موضع آخر:

﴿
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ9.

ويدعو إبراهيم بقوله:

﴿
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء10.

وعندما منحه الله عزّ وجلّ مقام الإمامة طلب ذلك لذريته:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ11.

وقد دعا إبراهيم عليه السلام للمؤمنين أيضاً، ولكنّه كان يدعو


201


دعاء خاصّاً لذريته ويوليهم رعاية خاصّة، ولم يذمّه الله سُبحانه. وعلى أىّ حال، فإنّ من الفطري أن يكون حبّ كلّ إنسان لأبنائه أشدَّ وأكثر.

والله سُبحانه يلقّن المؤمنين ويعلّمهم الدعاء لأبنائهم حيث يقول: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا  12.

الولد الصالح نعمة وأجرٌ من الله تعالى

اعتبر الولد الصالح في بعض الآيات نعمة خاصّة وأجراً للعمل الصالح.

وقد حكى القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا 13.


202


يُستشعر من هذه الآيات أنّ الأنبياء كإسماعيل وإسحق ويعقوب كانوا نعمة إلهية قد تفضَّل الله بهم على إبراهيم أجراً على هجرته من الوطن وأهله المشركين.

وقال في آية أخرى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ14.

ولعلَّ الرزق بالولد الصالح كإسماعيل وإسحق ويعقوب هو مصداق للأجر الدنيويّ المذكور في ذيل الآية، سيّما وأنّه جعل مجموعتين من أنبيائه من ذرية إبراهيمعليه السلام: إحداهما أنبياء بني إسرائيل وكانوا من ذرية إسحق، وثانيتهما ذرية إسماعيل التي تنتهي بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.

وقال في آية ثالثة: ﴿
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ15.


203


هناك آيات تنبىء بأنّ الله تعالى سوف يُلحق أبناء المؤمنين الذين اتّبعوا آباءهم في الإيمان بهم في الجنة، حيث يقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ16.

على أيّ حال، فإنّ أبناء المؤمنين يدخلون الجنه طبعاً، ولكنّ ما تشير إليه هذه الآية هو مرافقتهم لآبائهم، وهذه نعمة تُضاف إلى نعمة الجنة. من هنا يقول بعد ذلك بأنه لا ينقص من أجر عملهم شيئاً.

أو يقول: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ17.

بديهيٌّ أنّ المراد في هذه الآية هو كالآية السابقة أي مرافقتهم إيّاهم وإنْ لم يستعمل في هذه الآية لفظ الإلحاق.


204


والحاصل أنّه يُستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ وجود المال والبنين في ذاته لا قيمه سلبيّة له، وليس من أهداف الإسلام أن يسكن الإنسان كهفاً في هذه الدنيا من دون أبناء، ولا من أهدافه أن يعتزل العمل والسعي لكسب المال والمعاش.


205


هوامش

1- آل عمران، الآية 38.
2- سورة يوسف، الآية 21.
3- سورة القصص، الآية 9.
4- سورة آل عمران، الآية 37-39.
5- سورة مريم، الآية 2.
6- سورة الأنبياء، الآية 89.
7- سورة مريم، الآية 5.
8- سورة البقرة، الآية, 128 - 129.
9- سورة إبراهيم، الآية 35.
10- سورة إبراهيم، الآية 40.
11- سورة البقرة، الآية 124.
12- سورة الفرقان، الآيات 63 ـ 74.
13- سورة مريم، الآيتان 48 ـ 49.
14- سورة العنكبوت، الآية 27.
15- سورة الأنبياء، الآية 72.
16- سورة الطور، الآية 21.
17- سورة غافر، الآية 8.