المحاضرة الرابعة: المفتونون بمال الغير

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ1.

الهدف:

بيان ما ينبغي أن يكون عليه أصحاب الثروات وضرورة عدم الافتتان بمال الغير.


185


المقدَّمة
يورد القرآن الكريم قصة قارون كشاهد ونموذج لأصحاب الثروات الذين لو يوفَّقوا لإنفاقها واستثمارها فيما أراد وأمر الله تعالى، كما أن الآيات المباركة تحكي على لسان قوم قارون ما كان ينبغي على قارون فعله انسجاماً مع الإيمان بالله واليوم الآخر، وبالتالي سوء العاقبة التي تنتظر المفسدين من أصحاب المال، ولا يخفى أن فتنة المال من أصعب الفتن التي تصيب المرء في الدنيا ولا يسلم منها إلا ذو حظٍّ عظيم، ولذلك لم يحدثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة من الناحية النظرية فحسب بل أورد نموذجاً عملياً وتجربة تاريخية لتبقى ماثلةً في أذهان الجميع.


186


محاور الموضوع
السلوك الإيماني لأصحاب المال

ومن الواضح أن قوم قارون كانوا أهل إيمان وطاعة لموسى عليه السلام وكانوا يدركون الحقائق الدينية والمعارف الإلهية بشكلٍ رائع، ولذلك أسدوا لقارون مجموعة من النصائح التي ينبغي أن يكون عليها أهل المال حتى لا يكون هذا المال وبالاً عليه، ومما قالوه له أمور عدة:
١- عدم التكبر والزهو بالمال: فالمؤمن لا يفرح بأصل المال وإنما يفرح بكيفية استثماره في سبيل الله، وكذلك سواه من النعم الأخرى التي لا يمكن للإنسان عدّها سواء كانت من القوى التي أنعمها الله تعالى على الإنسان من داخله أو من خارجه، ولذلك نجد قومه ينهونه عن الفرح بأصل المال وأن الله لا يحبُّ ذلك قائلين له: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ2.


187


٢- أن يجعل همّه الآخرة: قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ3, فالهمُّ الأساسي هَمُّ الآخرة ولا يمكنك أن تتخذ موقفاً حيادياً فلا تعمل للآخرة ولا تفسد في الأرض بل ينبغي العمل للآخرة وأن يسعى سعيها، فامتحانك فيما آتاك الله وواجبك العمل للآخرة والحساب على ذلك، ولتنظر كلّ نفسٍ ما قدَّمت لغد.

٣- ألا يتعامل مع الدنيا على أنها دار ممر:
قال تعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا4, وفي استعمال كلمة النسيان هنا إشارة غاية في الروعة، لأن الإنسان إنما ينسى ما لم يتعلَّق قلبه به، وبالتالي فإن المرء مهما كثر ماله فلا ينبغي أن يتعلق قلبه به ويكون حاجزاً له عن أداء فرائضه الدينية، بل يبقى نظره الى المال وفق النظرة الشرعية التي خلاصتها أن المرء لا يُسأل كم جمع من المال في الدار الدنيا وإنما يُسأل كيف جمعه وكيف أنفقه.


188


٤- أن يُحسن من ماله: قال تعالى: ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ5, والإحسان أن تعطي بلا منّ أو أذى وبلا عوضٍ أو بدل بل تعطي منحة وكرماً، ويُذكِّر الله أهل الثروات أن ما بأيديكم من مال إنما هو بإحسان الله لكم وبمنّه عليكم ليرى ما أنتم فاعلون، فإياكم والبخل بما أنعم الله.

٥- ألا يكون المال باباً للفساد: قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ6, والفساد في اللغة نقيض الإصلاح، ويحذّر الله من مغبة سلوك سبيل الفساد فيُخرجك ذلك من دائرة المحبة والرضا الإلهيين.

ردَّة فعل قارون
١- التنكُّر للإرادة الإلهية:
قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي7, وهذه المسألة من ركائز التفكير الشيطاني وإذا استطاع الشيطان أن يقنع أصحاب الثروات أن ما بأيديهم إنما هو بعلمهم وقدرتهم وذكائهم فيكون


189


بذلك قد أقفل في وجوههم سبل الصلاح والإصلاح وفتح أمام أعينهم ظلمات الفساد والإفساد، ولذلك نرى أن الله يرد عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ8.

٢- الزهو والتكبُّر:
قال تعالى:
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ9, فإذا خرج أصحاب المال في زينتهم أصابوا ضعاف النفوس والإيمان بإيمانهم وفتنوهم بما منّ الله عليهم فحوَّلوا نعمة الله نقمة وأخرجوا بعض الناس عن قناعتهم بحيث يقول تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ10.

ومن الواضح أنّ هناك شريحة من الناس كانت مفتتنة بما أتى الله قارون من المال وكانت تتمنى لو أن الله منّ عليهم كما منّ على قارون هذه الأموال الطائلة.


190


بل أكثر من ذلك كانت تعيش مشكلة على مستوى الفهم والوعي الديني بحيث تبدلت القيم في أذهانهم إذ كانت تعتبر أنّ قارون ذو حظٍّ عظيم أن منّ الله عليه بذلك، ولعلَّ كلمة (عظيم) تُشعر أنهم كانوا يعتقدون أنَّ الإنسان كلما عظمت ثروته كلَّما كان أكثر كرامةً ومحبةً عند الله.

وهذه الشريحة موجودة دائماً في كل زمان ومكان، لكن المشكلة أن تتسلَّل هذه الشريحة فتصبح بين صفوف المؤمنين، فيغدو المؤمن مفتوناً بمال الغير متمنياً أن يرزقه الله مثله، ويصبح التقرب من أصحاب المال سنّة حسنة، وشيئاً فشيئاً نصبح من الجالسين على موائدهم والذاكرين لهم بكلِّ خير والمستشفعين بهم لأي خدمة دون أن نؤدي تجاههم أي فريضه من فرائض الهداية والثبات على الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك.

إنّ أحد أكبر الأمراض الأخلاقية أن نتقرب من الشخص لماله ونتحبب إليه لغناه ونمدحه لثروته ونذكره بالخير لأنه يؤمِّن لنا خدمة هنا ومساعدة هناك، فإنه والحال هذه


191


يصبح المال ذا قيمة إيجابية وبالتالي فإنه شيئاً فشيئاً نبدأ بالتحوُّل لنكون عضداً ووداً وصوتاً لأصحاب المال ولو كانوا كفَّاراً أو فسَّاق، لأن القلوب تكون قد مالت لأصحاب المال لا لأهل الدين والإيمان.

أمَّا أهل العلم والمعرفة الذين يدركون مسار السنن الإلهية فإنهم يدركون تماماً أن الثروات منّة من الله على من يشاء من عباده ليمتحنهم ويختبر إيمانهم، وأهل الصبر والثبات وحدهم الفائزون في هذا الامتحان الإلهي. قال تعالى:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ11.

السنّة الإلهية والخلاصة

والآيات المباركة تشير إلى عاقبة فساد أصحاب المال الذين لم يأتمروا بما أمرهم الله تعالى حتى ولو كانت أموالهم كأموال قارون، فإن مصيرهم إلى الهلاك فكانت النتيجة كما


192


عبّر تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ12, وأكثر من ذلك: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ13.

وأمّا الذين افتتنوا بماله فأدركوا سنّة الله ولو متأخِّرين، فقال الله تعالى محدِّثاً عنهم:
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ14.


193


هوامش

1- سورة القصص، الآية 76.
2- سورة القصص، الآية 76.
3- سورة القصص، الآية 77.
4- سورة القصص، الآية 77.
5- سورة القصص، الآية 77.
6- م.ن.
7- سورة القصص، الآية 78.
8- سورة القصص، الآية 78.
9- سورة القصص، الآية 79.
10- سورة القصص، الآية 79.
11- سورة القصص، الآية 80.
12- سورة القصص، الآية 81.
13- سورة القصص، الآية 81.
14- سورة القصص، الآية 82.