تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾1.
الهدف:
بيان الفهم القرآني للمال والبنين وكيف ينبغي التعامل معهما.
المقدَّمة
المال والبنون من وجهة النظر الأخلاقية
ما هو حكم اكتساب الأموال والبنين أخلاقيا؟ هل له قيمة إيجابيّة أم سلبيّة؟ فإذا
كان حبّ الأموال والبنين هو المحور فإنّه يقتضي الغفلة عن الكمالات المعنوية،
وبالتالي يُعتقد بأنّ الأموال والبنين منشأ للقيمة والإستعلاء ويُغفل عن الكمالات
الواقعية والمعنوية.
في هذه الحالة المنحرفة التي يفقد حبّ المال وبذل الجهد لاكتسابه موقعهما الأصيل،
ويتعارضان مع الكمالات المعنوية والاُخروية للإنسان ستكون لهما قيمة أخلاقية
سلبيّة.
يحذّر القرآن الكريم الإنسان في الكثير من الآيات من صيرورة البنين والأموال غاية
له بحيث تمنعه من تحقيق الأهداف الأصيلة للحياة. ويذمّ الذين يعتبرون الأموال
والبنين ملاكاً للقيمة.
محاور الموضوع
للإنسان حبّ شديد للمال والبنين، وقد أشير إليهما معاً في القرآن الكريم غالباً
كقوله تعالى:
﴿ وَاعْلَمُواْ
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ﴾2.
﴿وَمَا
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى﴾3.
﴿الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ﴾.
المال والبنون في القرآن
يصف القرآن الكريم بأوصاف مختلفة:
أ- الزينة: قال تعالى:
﴿زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا﴾4. إنّ كلّ ما ذُكر في هذه الآية كالقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث من مصاديق المال، وهي
زينة من وجهة نظر الإنسان وتجذبه نحوها كي ينتفع بها.
أجل، إنّها زينة الحياة الدنيا، وتتوقف قيمتها الإيجابية أو السلبيّة على نية
الإنسان ودافعه في كسبها، فإذا أراد الحياة الدنيا للعبادة وأداء الواجب وبالتالي
لأجل تكامله فإنّ مثل هذه الحياة وشؤونها تكون ذات قيمة أخلاقية إيجابيّة. وعلى
العكس إذا جعل الحياة الدنيا وشؤونها هدفاً وانشغل بها حتّى أنسته الأهداف الكبرى
التي ينبغي الوصول إليها كانت ذات قيمة أخلاقية سلبيّة. إنّ الحبّ الأصيل للحياة
الدنيا وزينتها ليسَ مذموماً في الأخلاق الإسلامية فحسبُ، بل هو السبب لكلّ خطيئة
وانحراف.
وقال في آية أخرى:
﴿الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾5.
فقد اعتَبر المال والبنين زينة وجمالاً للحياة الدنيا. وكما تمّ بيانه فانّه يجب
مقارنة قيمتها بالقيم الأصيلة والأهداف الأرفع والأفضل.
ب- نعمة إلهية: في بعض الآيات اعتبر الأموال والبنين نِعماً إلهية للبشر، وهذا وحده
ليس دليلًا على قيمتها الأخلاقية، ولكنّها من جهة نعمة تمهّد لإبداء الإنسان شكره
لله تعالى، ومن جهة اُخرى إذا كان استخدامها بدافع التمكن من العبادة وأداء الواجب
فستكون ذات قيمة أخلاقية إيجابيّة، كالآية:
﴿وَأَمْدَدْنَاكُم
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾6.
ج- عاقبة الاستغفار: قال تعالى:
﴿فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
*
يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا *
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل
لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾7
في بعض الآية وعد الله بأنّكم إذا أستغفرتم فسوف تكثر
أموالكم وأولادكم. ومن هذا
الوعد الإلهي يمكن إدراك أنّ التمتع بالمال والبنين وحبَّهما ليس سيئا في ذاته.فلو
كان للمال والبنين قيمة سلبيّة لم يَعدِ الله تعالى الناس بمثل هذا الوعد أبداً.
د- الفتنة: قال تعالى:
﴿وَاعْلَمُواْ
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ﴾8.
المال والبنون في عيون الكفَّار
يقول تعالى في قصة طالوت بعد أن عينه الله تعالى قائداً للجيش واعترض قومه على ذلك:
﴿وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ
أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن
يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾9.
كانوا يعتقدون خطأ انّه ليس أهلا للقيادة لأنّه غير ثريّ.
في الحقيقة كانت الأهداف
والقيم قد تغيّرت لدى بني إسرائيل لحبّهم المفرط للأموال والبنين حتّى إنّهم
اعتبروا المبدأ الأساسي للقيمة والكمال الإنساني هو المال والثروة، واعتقدوا أن من
يملك أموالاً أكثر فهو أليَق للحكم.
ومشركو مكة لم يتحمّلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بهذه الذريعة وهي:
لماذا لم يخترِ الله نبيّه من بين العظماء أي أثرياء العرب؟
﴿وَقَالُوا
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾10.
فقال الله تعالى في الردّ عليهم:
﴿أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾11.
إنّ الله عزّوجلّ هو الذي قسّم ثروات الدنيا على الناس فأعطى كلّ إنسان ما يصلحه،
إنّ المال في الدنيا ليس سوى وسيلة للاختبار قد قسّمه الله على الناس على أساس من
المصلحة.
ولكنّ مشركي مكَّة لتوغّلهم في القيم المادية واعتبارهم المال ملاكاً لعظمة الإنسان
وقيمته ظنّوا أنّ النبي يجب انتخابه من بين الأثرياء.قال في آية أخرى:
﴿فَلَوْلَا
أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ﴾12.
هذه الانحرافات الفكرية والقيمية موجودة في المجتمعات المختلفة وتشغل بال بني
الإنسان حتّى المؤمنين والعابدين لله عزّوجلّ. كان بنو إسرائيل يعبدون الله ويؤمنون
بنبي الله وطلبوا منه تعيين قائد لهم، ورغم ذلك لم يُقرّوا بقيادة طالوت غير
الثريّ، وذلك لحبّهم للمال واعتباره الملاك الوحيد للقيادة.
وفي القرآن ندّد الله عزّوجلّ بشدة بهذه الرؤية حيث قال تعالى:
﴿وَيْلٌ
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ
مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾13.
وقال عن الكفار:
﴿وَقَالُوا
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾14.
كان هؤلاء الكفار يعتقدون بأنّ العذاب إذا وقع فانّه يصيب الفقراء والبؤساء، إذ إنّ
بيوت الفقراء غير محكمة فهي التي تنهدم لا بيوتهم المحكمة!. إنّ الفقراء هم الذين
يتعرضون للشقاء والعذاب، وليس الذين يحظَون بمعونات من أبنائهم الكثيرين!
باب للفساد: وفي آية اُخرى يضفي على الثروة قيمة سلبيّة لانّها أصبحت منشأ للتكبر
ويذمّ مثل هؤلاء الأثرياء بقوله:
﴿عُتُلٍّ
بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾15.
وفي آية اُخرى يضفي عليها قيمة سلبيّة لكونها سبباً للغرور وحبّ الدنيا المفرط
بقوله تعالى:
﴿ذَرْنِي
وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ
شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾16.
مثل هذه الآثار والأعراض تكون منشأ للقيمة السلبيّة للأموال والبنين، ولولا هذه
الأعراض لم يتعلّق بهما ذمّ أيضاً، لأنّ ذات الأموال والبنين نعمة إلهية ويمكن
استخدامهما بصورة صحيحة، وإذا اكتُسبا عن طريق مشروع ولأهداف صحيحة كان لهما قيمة
إيجابيّة أيضاً.
يقول تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا
لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾17.
أو يقول:
﴿قُلْ
إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾18.
إذًا تتعلّق القيمة السلبيّة للأموال والبنين بهذا الحبّ المفرط الذي يمنع من بلوغ
الكمال المتوخّى، ويصدّ الإنسان
عن الأعمال الصالحة ويدفعه لارتكاب القبائح،
والقيمة الإيجابية تكون في ظلّ الدافع الإلهي والإلتزام بالموازين الشرعية الصحيحة
في اكتساب المال وإنفاقه واتخاذه وسيلة لنيل القرب الإلهي والمنزلة الرفيعة عند
الله.
|