المحاضرة الأولى: فتنة العلم في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا1.

الهدف:

الإضاءة على بعض الأمور التي يجب التنبه لها لئلا يقع المرء في فتنة العلم.


155


المقدَّمة
والعلم شأنه شأن أي قوة يتمتع بها الإنسان فقد تكون سبيلاً إلى الله والجنان إن أحسن التعامل معها وسخَّرها لخدمة الناس وفي سبيل الله، وقد تكون حجاباً بين الإنسان وربه إن أساء استخدامها واتبع سبيل الهوى والشيطان في تسخير هذه القوة العظيمة حتى يكون - والعياذ بالله - الحجاب الأكبر كما يعبر بعض العرفاء.


156


محاور الموضوع
ونسلِّط الضوء على بعض الأمور التي تعصم المرء من فتنة العلم من خلال ما توحيه بعض الآيات التي تحدثت عن قصه طلب موسىعليه السلام العلم على يد نبي الله الخضر عليه السلام.

والعصمة من فتنة العلم إنما تكون في عدة أمور أهمها:
١- التواضع: كان موسى عليه السلام نبي ذلك الزمان ومن الأنبياء أُولي العزم، وخصّه الله تعالى بكتاب التوراة، وكان كليم الله فقد كلّمه الله دون سواه من الناس، ولا شك أنه كان أعلم أهل زمانه وإن كان نبي الله الخضر يتقن علماً لا يعرفه موسى عليه السلام، لكن عندما أمره الله تعالى بأن هناك من يمكنه أن يتلقى علماً على يديه ذهب للقائه والتعلَّم منه.

٢- عدم الغرور بالعلم: وهذا من أهمّ ما تقرأه في قصة موسى والخضر عليهما السلام حيث بادره نبي الله موسى بالسؤال قائلاً له: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا2. فقبْل


157


الحوار وقبْل بدء عملية التعليم أذعن له موسى عليه السلام بالإتِّباع، فهو لم يستأذنه بالتعلُّم وإنما استأذنه بالإتِّباع، وكأن الإتِّباع نتيجة طبيعية فيما لو وافق الخضر على تعليمه. وفي ذلك آية غاية في الأهمية وهي ليس إجلال المعلم واحترامه فحسب بل طاعته واتباعه وتقديسه، وإلا كان المتعلّم مغروراً متكبراً.

٣- الصبر على العلم:
بعد وعد موسى بالطاعة لما شدد عليه الخضر قضية التعليم بأنها علم صعب وأن هذا العلم يحتاج إلى الصبر وعدم قدرته على التحمل، فأعاد موسى عليه السلام وعده بالطاعة والإتِّباع مضيفاً إليه وعده بالصبر فقال: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا3, ويمكن فهم الصبر من الآية بمعنى الاستعانة بالله على الصبر في طلب العلم.

٤- عدم كتمان العلم:
قال تعالى: ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ4، فتعلُّم العلم مقدمة لتعليمه ونشره وتفقُّه


158


الآخرين به، ولذا ورد في الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع"5.

وكلما كانت التحديات أقوى كلما كان نشر العلم آكد وأوجب على العلماء ؛ولذلك ورد في الحديث الشريف: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فلعنة الله عليه"6.

٥- طلب العلم لغير الله تعالى:
وواضح من خلال الآيات التي وصفت نبي الله الخضر عليه السلام بأنه عبدٌ من عبادنا ووصفت العلم الذي علّمه إياه الله بأنه علم لدني أن مسير موسى عليه السلام في طلب هذا العلم إنما كان لوجهه الكريم دون سواه، قال تعالى:
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا7، ولعلَّ المراد من الرحمة هو العلم كذلك.

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي من تعلَّم علما


159


ليماري به السفهاء، أو يجادل به العلماء، أو ليدعو الناس إلى نفسه فهو من أهل النار"8.

ومن الواضح أنّ هناك هدفية تكمن في سريرة كل طالب علم، فلأيِّ أمر يطلب المرء العلم؟ هل يطلبه لأهداف دنيوية أم لغايات أخروية؟ والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد أن طلب العلم إن لم يكن لوجهه تعالى فإن صاحبه لا محالة في النار.

٦- ترك العمل بالعلم:
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح"9.

ويجب على العالم العمل، كما يجب على غيره، لكنّه في حقّ العالم آكد، وفي هذا المجال يقول العلَّامة الحلي: ولهذا جعل الله ثواب المطيعات وعقاب العاصيات من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعف ما جعل لغيرهنَّ لقربهنَّ من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واستفادتهنَّ العلم.


160


ورُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه حدَّث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، ورجل تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله سبحانه فاستجاب له، وقبل منه فأطاع الله، فأدخله الجنة، وأُدخل الداعي إلى النار بتركه علمه"10.

٧. اتِّباع السلطان: وقد لا تكون هذه النقطة واضحة في قصَّة موسى والخضر عليهما السلام، لكنها بارزة من خلال سيرة نبي الله موسى عليه السلام في مواجهة أعتى جبروت في عصره والذي ما زال طغيانه وظلمه مضرب مثل حتى يومنا هذا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"11.


161


وهنا إشارة مهمة جداً: إنَّ هؤلاء - وما أكثرهم اليوم - لا يفسدون دينهم ويستبدلون بآخرتهم دنياهم فحسب، بل يشكِّلون خطراً حقيقياً على دين الناس الذين أوجب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم علينا أن نحذرهم ونتقي شرهم.


162


هوامش

1- سورة الكهف، الآية 66.
2- الكهف 66.
3- الكهف 69.
4- التوبة 122.
5- ميزان الحكمة ج6، ص 57.
6- المصدر نفسه، ج3، ص 1791.
7- الكهف 65.
8- ميزان الحكمة، ج3، ص 2080.
9- المصدر نفسه، ص 2847.
10- الكافي، ج1، ص44.
11- ميزان الحكمة، ج3، ص 2905.