المحاضرة الخامسة: نظرة الإسلام لِحُبِّ الرئاسة

تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "ملعون من ترأَّس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه"1.

الهدف:

تسليط الضوء على موضوع حبّ الرئاسة وأسبابه وعلاماته وعلاجاته.


141


المقدَّمة
يعتبر الإسلام المسؤولية أمانةً وتكليفًا لا تشريفًا، فمنصب أيِّ عامل ليس سبب رفعته وعلوِّه، ومهمته ليست سبباً لتفاخره ومباهاته؛ لأنّ هذه المناصب ليست جزءًا من حقائق عالم التكوين، بل هي من الأمور الاعتبارية والوضعية التي جُعلت لتنظيم شؤون العمل؛ فإذا تبوَّأ شخصٌ منصبًا ما، لا يعني أنّه أفضل وأعظم ممن هم دونه رتبةً في العمل، إذ لا دخالة للمنصب والموقع في تحديد الأفضلية، بل المعيار في ذلك هو التقوى والاستقامة والعلم والجهاد والبصيرة.

وكلَّما اتسعت دائرة مسؤولية الشخص كلّما زادت تكاليفه. فالمطلوب من المسؤول على الصعيد الأخلاقي والعملي، أكبر من المطلوب من العامل. وهذا ما نجده في تعاطي أمير المؤمنين عليه السلام مع ولاته، فقد كان شديد المراقبة والتأديب لهم، فعندما بلغه أنّ واليه على البصرة، عثمان بن حُنيف، قد دُعي إلى مأدبة فخمة يقيمها أغنياء القوم، بعث


142


له بكتاب يعظه فيه ويحذره الدنيا. وقد تكرَّر هذا الفعل مع كثير من ولاته.

لذا فإنَّ الأمانة التي يحملها المسؤول تتطلَّب منه مستوىً عالياً من التقوى والورع وتهذيب النفس، كي يتمكَّن من حفظ الأمانة وصيانتها.


143


محاور الموضوع
ذمُّ حُبِّ الجاه
حذّرت الروايات الشريفة من خطورة هذه الرذيلة، وبيّنت الخراب الذي تلحقه بدين الإنسان المسلم ومعتقده، جاء في الحديث النبوي الشريف: "مـا ذِئبانِ ضـاريـانِ اُرسِلا فِي زَرِيبَةِ غَنَم أكثرَ فَساداً فِيها مِنْ حُبِّ المـالِ وَالجـاهِ فِي دِينِ الرِّجُلِ المُسلِمِ"2.

وفي حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حُبُّ الجـاهِ وَالمـالِ يُنبِتانِ النِّفاقَ فِي القَلبِ كَمـا يُنبِتُ الماءُ البَقلَ"3.

وقد أولت الروايات الإسلامية أهمية كبرى لهذهِ المسألة من موقع التحسُّس لظهور أبسط العلامات لحبّ الجاه وحذّرت منها، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "إِيّاكُم وَهَؤلاءِ الرُّؤساءِ الَّذِينَ يَتَرَأسُونَ فَواللهِ مـا خَفَقْتِ النِّعالُ خَلفَ رَجُل إلاّ هَلَكَ وأَهلَكَ"4.


144


وورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في معرض حديثه عن الجذور الأصلية للذنوب: "أَوّلُ مـا عُصِي اللهُ تَباركَ وَتَعالى بِستِّ خِصـال: حُبِّ الدُّنيـا وَحُبِّ الرِّئاسَةِ وَحُبِّ الطَّعـامِ وَحُبِّ النِّسـاءِ وَحُبِّ النَّومِ وَالرَّاحَةِ"5.

ونظرًا لخطورة هذه المسألة، سنعرض علامات وأسباب حبّ الرئاسة وطريقة علاجها.

علامات حبّ الرئاسة

يمكن معرفة الأفراد الذين يحبُّون الجاه والرئاسة عن طريق حركاتهم وكلماتهم وسلوكهم، فكلُّ ما يفعلونه من خير يرغبون في إظهاره والإعلان عنه، حتى تكون لهم المنزلة والمقام عند الناس.

وعلى هذا فالذين يحبّون الجاه يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي نحو الرياء غالباً؛ لأنّ حبّهم للجاه لا يمكن إشباعه إلاّ بالرياء، ولذلك فإنّ بعض كبار علماء الأخلاق، أدرجوا عنوان الرياء وحبَّ الجاه سويةً في كتبهم.


145


وكثير من الذين يحبّون الجاه يحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فهدفهم الشهرة والوجاهة والإشارة إليهم بالبنان، عن أيِّ طريق كان، وليس هدفهم من الوجاهة التحرُّك باتّجاه تفعيل الخير في المجتمع من موقع الإصلاح الاجتماعي، ولكن الهدف هو مدح الناس وخضوعهم لهم، فهم يسعون للأعمال التي فيها الشهرة وإن كان مردودها قليلًا، ولا يسعون أبداً للأعمال التي لا تحقِّق لهم الوجاهة والسمعة وإن كانت تلك الأعمال تعود بالنفع الكثير للمجتمع.

محبُّو الجاه يتوقَّعون أن يُمدحوا دائماً، ولا يرغبون بالنقد والتأنيب، وينتظرون الاحترام من الجميع في المجالس وغيرها، ولا يحبُّون أن يجلس أحد في مكان أعلى منهم، أو يقاطعهم أثناء كلامهم، ويجب أن يكون كلامهم هو الكلام الأول والأخير، ومن قدّم إليهم صنوف المدح وآيات الاحترام والتبجيل فهو إنسان شريف ويعترف بالجميل، ومن لم يكن كذلك فهو لئيم وناكر للجميل، ولذلك فإن مثل هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون منبوذين ومكروهين، ورجوع


146


بعض المحتاجين إليهم هو من باب الإجبار وعدم الحيلة.

ومن العلامات الأخرى لهم، أنّهم يعيشون في حالة الوهم والشخصيَّة الخيالية الضاربة في أحلام اليقظة، فما لا يحصِّلونه في عالم الواقع من المنزلة والجاه والاحترام يجدونه حاضراً في عالم الوهم والخيال.

أسباب حُبِّ الرئاسة:

من أسباب حبّ الجاه والرئاسة "حبّ الذات" المفرط عند الإنسان، حيث يتحرّك الإنسان لإرضاء هذا الدافع المترسِّخ في أعماق النفس بكلِّ وسيلة تمكِّنه من تحصيل ذلك الغرض، ومنها المقام والمنزلة في واقع المجتمع.

وهناك دوافع أخرى لهذه الحالة النفسيَّة مثل الشعور بالحقارة والدونية، فالأشخاص الذين ذاقوا مرارة الحقارة وعاشوا الإهانة من الآخرين لأيِّ سبب كان فإنّهم يسعون وعن طريق حبّ الجاه والأماني الكاذبة لتعويض ذلك النقص.

وكذلك الحسد والحقد والانتقام يمكنها أن تكون من الأسباب وعلل حبّ الجاه، فإنّ من يعيش الحسد تجاه الآخر


147


يتحرّك من موقع طلب الرياسة والمنزلة الاجتماعية ليكون الآخر في موقعٍ أسفل منه في دائرة العلاقات الاجتماعية ويستغلّ الفرصة لتنفيذ ما في قلبه من الحسد والحقد والانتقام.

علاج حبّ الرئاسة:

في علم الأخلاق أصل كلّيٌّ وهو أنَّ المبتلين بالرذائل الأخلاقية إذا ما تنبهوا للعواقب السيئة لهذهِ الصفات، فإنّهم في الأغلب الأعمّ سيفكّرون في طرق العلاج لها وتركها.

وهذا الأصل يصدق أيضاً في مورد حبّ الرئاسة، فعلى المبتلَى بحبّ الجاه أن يلتفت إلى أنّ هذهِ الرذيلة تبعده عن الخالق وعن المخلوق أيضاً، فيهرب منه الصديق ويبتعد عنه الناس، وأنّ هذه الصفة ستجرّه إلى الرياء الذي هو من أخطر الذنوب، أو ربّما يصبح "كالسامري" و"قارون" اللَّذيْن كفرا وعاديا نبي الله موسى عليه السلام، وعليه أن يعلم أنّ تأثير حبّ الجاه في الإيمان القلبي للإنسان كمثل الذئب الضاري في قطيع الغنم، وأنَّ حب الجاه ينبت النفاق في القلب، فإذا


148


علم الإنسان بكلّ هذه المخاطر والآثار المخرّبة لهذه الرذيلة فسوف يجدد النظر في سلوكياته وأعماله قطعاً.

وإذا فكَّر هذا الشخص بعدم ثبات هذهِ الدنيا والتفت إلى قِصَرِ العمر وأنّ النعم مواهب مؤقتة وعارية مسترَدَّة؛ بل لو التفت الى قابل ذاته المُقدّسة، وأنَّ العزّة والذلة والعظمة والحقارة بيد الله تعالى، والأهمّ من ذلك كلّه أنّ القلوب بيد خالقها، لَعَلِمَ أنه لا يمكن الاعتماد على إقبال الناس وإدبارهم، فإن إقبالهم وإدبارهم لا ثبات فيه مطلقاً ولا يعتمد عليه، ومن يتحرّك في تدبير أموره على ذلك الأساس فَمثَلُه مثَلُ الذي يريد البناء على أمواج البحر، والمراهنة على معطيات رضا الناس وحالة الاعتماد عليهم لا تُنتجُ الضرر الأخرويَّ فحسْب، بل لا تنسجم حتى مع خطّ العقل في سلوكياتنا الدنيوية أيضاً.

كلُّ ما ورد هو طُرُقُ العلاج من الناحية العلمية، وأمّا من الناحية العملية، فطريقة علاج حبِّ الجاه هي أن يضع الشخص نَفْسَه في حالة يميتُ فيها "حبَّ الجاه"، فمثلا


149


يجلس في المجالس العامة مع الأفراد العاديين وليس مع الشخصيات المرموقة، وعلى مستوى اللباس، يجب أن يتّخذه من النوع المتوسِّط وكذلك بيته ومركبه وطعامه وأمثال ذلك6.

كذلك فإنَّ من الطرق العملية لمعالجة حبِّ الرئاسة استشعار ثقل المسؤولية وواجبات المسؤول تجاه من يعمل معه7، ويعلم أنه سوف يُسأل يوم القيامة عن كلِّ كلمة قالها لمن يعمل ضمن دائرة مسؤوليته، وعن كل نظرة نظرها إليه، أو تصرُّف تصرَّفه معه.

ومن الوسائل العملية أيضًا تربية النفس على رفض الرئاسة، بل على عدم التفكير بها، وتجدر الإشارة إلى أنّ حبَّ الرئاسة والسعي إليها يختلفان عن القيام بمسؤولياتها، فالأنبياء والأولياء عليهم السلام لم يحبوا الرئاسة ولم يطلبوها، ولكنّهم قاموا بمسؤولياتها واستعملوها لخدمة الناس


150


وهدايتهم. لذا المطلوب ترك طلب الرئاسة والمنصب، بل عدم تحديث النفس بذلك، ولكن إذا كُلّفت بمسؤولية ما عليك أن تقوم بها على أكمل وجه، كما خاطب الله عزَّ وجلَّ نبيّه يحيى عليه السلام ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ8.


151


هوامش

1- الكليني، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب طلب الرئاسة، ح4.
2- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، م.س، ج2، ح3034.
3- الكاشاني، محسن، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، م.س، ج6، ص112.
4- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الرئاسة، ح3.
5- الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1995، ج1، ص230.
6- انظر: الشيرازي، ناصر مكارم، الأخلاق في القرآن، ط2، المؤسسة الإسلامية، قم، ج3، ص ص8-25.
7- سنعالج هذه المسألة في المبحث المقبل إن شاء الله.
8- سورة مريم، الآية:11.