المحاضرة الرابعة: الالتزام بالحكم الشرعي لدى العاملين

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا1.

الهدف:

بيان بعض الصفات الإيمانية التي ترتبط بالسلوك الأخلاقي للعاملين.


133


المقدَّمة
من أكبر الخسائر في حياة الإنسان أن يكون من السالكين العاملين المتفرِّغين لخدمة الإسلام والمسلمين باذلاً وقته وجهده في هذا المضمار، إلا أنَّ سلوكه وتعاطيه لا ينسجمان مع مبادئ الإسلام وروحيَّته وأخلاقياته، هذا الإنسان يحسب نفسه أنه في الخطّ الصحيح وفي النهج الذي يرضي الله ورسوله، إلا أنّ عمله لا يتوافق مع المكان الذي جعل نفسه فيه، هؤلاء عبّرت عنهم الآية بالأخسرين أعمالًا - وهو منتهى الخسارة، لأن سعيه وعمله ينسجمان مع الضلال وهو يحسب نفسه أنه يُحسن صنع، فالرهان كل الرهان ليس بالمكان والمنصب والمسؤولية وإنما بمطابقة السلوك الأخلاقي لتعاليم أهل بيت العصمة عليهم السلام ووصاياهم.


134


محاور الموضوع
استكمالاً للعناوين المهمَّة التي يجب على العاملين التقيُّد بها والتي أوردناها في المحاضرة السابقة فإننا نورد هنا بعض العناوين الأخرى التي تعتبر من أهمِّ ما ينبغي الالتفات إليه:
٧- حفظ أسرار العمل: إن الكتمان شرط أساسي لنجاح الكثير من الأعمال التي نقوم بها في مختلف مجالات حياتنا، فقد ورد في الحديث: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"2.

وبما أننا نعيش اليوم في بيئة فاسدة، وجب علينا أكثر فأكثر الالتزام بالكتمان، فالتحديات تزداد، وعدد العملاء يرتفع، والتقنيات الحديثة التي تسرّع في نقل الخبر وتجعله ينتشر كالنار في الهشيم أصبحت في متناول الجميع، ومعظم هؤلاء يقدمون معلومات هائلة ومجانية للجبهة المقابلة التي تتسع وتزداد قوّة وتطورًا، ويزداد حصارها وعدوانها.

وأمام كلّ هذه التحديات، وحيث إنَّ إمكانياتنا البشرية


135


والمادية محدودة لمواجهتها، فإنه يتحتّم علينا اللجوء إلى ما يعدّل هذه الإمكانات، ولعلَّ الكتمان هو السلاح الأساس بعد العون والاتكال على الله تعالى، ومن مميزات هذا السلاح انّه فعّال جدًا، وغير مكلف، وبسيط، ويستطيع كل منا استخدامه بدون التدرّب عليه.

لماذا نفشي سرًّا وقد أبانت أحاديث العترة الطاهرة عليهم السلام خطورة ذلك، حتى وصل الأمر بالإمام الحسين عليه السلام إلى تمنّي أن يفدي بعض لحم ساعده مقابل الكتمان عند شيعته "وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النزق3 وقلة الكتمان"4.

فحفظ أسرار العمل وكتمان المسائل الضرورية سرُّ نجاح العاملين، فالأصل في العامل أن يكون كتوماً سرِّياً لا يتحدَّث بقضايا العمل والمشاكل التي تُواجهه في السهرات واللقاءات وأمام الأصدقاء والأقارب وسواهم، ولأيّ عذرٍ كان، فتنتشر الشائعات وتكثر


136


التحليلات وتُهتَكُ الأستار وتسري الشكوك في الأفراد وتنتقل الأخبار من شخصٍ الى آخر حتى تصل إلى أماكن مشبوهة، بل وقد تصل إلى ساحة الأعداء بدون أن نشعر بخطورة ما نفعل.

إنّ أبسط قواعد التقيد بالحكم الشرعي تعني كتمان أسرار العمل وعدم التداول بها إلّا في الأطر الضيقة والمسموحة، وهذا أصل لا يمكن الخروج عنه إلا بمقدار الإجازة على الخلاف.

٨- إبعاد العمل عن الأمور الشخصية:
وهذه نقطة قلما يلتفت إليها البعض، فقد يكون بينك وبين أحد العاملين غلّ أو حقد أو نزاع على أمرٍ خارج العمل، كما قد يكون بينك وبين أحد العاملين صداقة حميمة أو قرابة أو صلةٍ ما، فالتقيُّد بالحكم الشرعي يعني أن لا تستغل منصبك للإنتقام ممن بينك وبينه عداوة وتعطِّل عمله ولا تيسِّر له أمراً، كما أنه لا ينبغي تيسير أمر ممن هناك صلة بينك وبينه احترازاً من الحساسية أو الحرج، فالمسؤول لا ينظر إلى الأفراد وإنما ينظر إلى القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ولا ينظر إلى أيِّ أمر سواها.


137


٩- المحافظة على نظافة المراكز: وكل ما يرتبط بالشكل، وما له علاقة بنظافة الأثاث والجدران والمكاتب وتنظيم الملفَّات والأغراض وعدم بعثرة الأوراق ووضع كلّ مسألة مكانها ليمكن التوصُّل إليها عند الحاجة وصيانة المسائل الضرورية، ويدخل في هذا كلُّ ما له علاقة بالبيئة من حيث الشكل، وهذا كاشف عن مراعاة الأحكام الشرعية التي دعت إلى التجمُّل والتزيُّن حتى مع الحاجة والفاقة.

١٠- احترام وقت العمل:
فإنَّ وقت العمل من الأمور التي تتسم بالقداسة من الناحية الشرعية كون المرء يؤدِّي واجباً دينياً أو سعياً لطلب الرزق الحلال، وفي نظر المؤسَّسة كونها تقدِّم بدلاً مالياً بإزاء الإنتاجية داخل الوقت، وفي نظر العامل أمام أخلاقه وسلوكياته إزاء التعهدات فلا يخون هذه الأمانة من خلال التلهي في زيارات داخل العمل وتمضية الوقت في شرب الشاي والمفاكهة والحديث على العاملين وصناعة الطعام ومشاهدة التلفاز.


138


١١- انجاز الملفَّات العالقة: وأعني الوضوح في التعامل مع الآخرين، وبيان النقص في معاملاتهم وشرح كيفية إنجازها وعدم إلقائها في الجوارير بعلة أنها ناقصة، فالعامل مهمَّته المساعدة على إنجاز الملفَّات وليس مجرَّد الحكم عليها بأنها ناقصة أو تامة.

١٢- الإخلاص:
ومن أهمّ مؤشِّرات الإخلاص أن لا يتوقَّع المدح والثناء من أحد وأن لا يرتبط عمله بحضور المسؤول، فإذا غاب المسؤول لأمر ما وجدته لاهياً عن عمله ثم يقف أمامه ليقدم التبريرات والحجج الواهية لعدم إنجاز العمل، فالمخلص يستشعر دائماً رقابة الله عزّ وجلّ ويعمل لوجهه، فقد ورد في صفة المرائي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويُحبُّ أن يُحمد في جميع أموره"5.

١٣- إتقان العمل:
والمراد هنا تقديم النموذج الأفضل والسعي الدائم لتطويره، وهذا الإتقان يتطلَّب التخصُّص والخبرة


139


والتخطيط للعمل وضرورة الاستشارة والاستفادة من تجارب الآخرين "من شاور الرجال شاركها في عقولها"6.

ومن أهمّ الأمور التي تشكِّل عقبات دون إتقان العمل عدم الانتباه لأهمية الإتقان والملل والضجر والكسل والاهتمام بالكم دون النوع والتساهل في أداء عمله وتكليفه والتسرع، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ من العمل، إنما يسألون عن جودة صنعته"7.

وفي الختام نؤكِّد على مسألة وهي أنَّنا أوردنا في هاتين المحاضرتين بعض العناوين التي يجب التقيد بها ويحرم الخروج عنها، إلا أنّ هناك الكثير من العناوين التي ينبغي الاحتراز عنها كالغيبة والنميمة والتقارير الكاذبة وحبّ السلطة وسواها من الابتلاءات التي ينبغي للأشخاص المتصدِّين للشأن العامّ وخدمة الناس الالتزام بها.


140


 

1- الكهف، 103، 104.
2- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، م.س، ج2، ح3937.
3- النزق: الطيش عند الغضب.
4- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الكتمان، ح1.
5- الكليني، الكافي،م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الرياء، ح8.
6- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، م.س، ج4، ح6856.
7- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مركز آل البيت العالمي للمعلومات، ج20، ص308.