المحاضرة الثانية: العامل وأداء التكليف

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ1.

الهدف:

بيان محوريَّة أداء التكليف في العمل وربط المفهوم بالنتائج والبركات المترتِّبة على أداء التكليف.


115


المقدَّمة
يوجد الكثير من المعايير التي يُقاس على أساسها نجاح العمل أو فشله، فالمجتمعات الغربية تقيس نجاح العمل بالنتائج الحاصلة، فالنتيجة هي الهدف ومعيار النجاح والفشل، أمّا الإسلام فيرى أن الهدف هو أداء التكليف، ومعيار النجاح والفشل هو أداء التكليف لا غير.

ويقول الإمام الخميني قدس سره: "حينما كنت في باريس كانت تأتيني جماعة ممَّن يتصفون بحسن النيّة، ويعتقدون أنَّهم ناصحون، فكانوا يقولون لي: إنَّ هذا العمل (الثورة) ليس عملًا صحيحاً لأنَّه لا يصل إلى نتيجة مطلوبة، لأننا لا نمتلك القوة والقدرة التييمتلكها النظام. وقد أراد هؤلاء بظنّهم أن يصرفوني عن مواصلة المسيرة، فكنت أقول لهم: إننا نعمل بتكليف شرعي ومعلوم، والعمل بالتكليف الشرعي لا يُشترط فيه الوصول إلى النتيجة، فإذا وصلنا إلى النتيجة، فذلك حسن"2.


116


ولكن يجب الانتباه إلى أنَّ محورية التكليف لا تعني عدم السعي للنتيجة، إنما تعني العمل وفق التكليف للوصول إلى النتيجة، فإن وصلنا إلى النتيجة فهذا ممتاز، وإن لم نصل إلى النتيجة فلا نندم لأنا أدينا تكليفنا.


117


محاور الموضوع
أنواع التكليف
لا بدَّ من التفريق بين نوعين من التكليف:
١- التكليف المباشر: وهو التكليف التنظيمي المباشر، كأن يقول لك مسؤولك افعل كذا ولا تفعل كذا. والتحدِّي هنا يكون في الامتثال والطاعة.

ولكي تتضح الصورة نعطي مثالاً توضيحياً: طلب منك مسؤولك القيام بمهمَّة محدَّدة3، فوجدت أنَ ذلك مضرٌ بالعمل، فماذا تفعل؟ هناك ثلاثة احتمالات يمكن تصوُّرها:
أ- رفض تنفيذ المهمَّة، وتكون بذلك قد خالفت التكليف، وهو أمر غير مشروع ويمسّ بالأصول والمبادئ الإسلاميَّة. إذًا خيار مخالفة التكليف خيار خاطئ.

ب- الامتثال المباشر لتنفيذ المهمَّة، هذا الخيار أصوب من مخالفة التكليف. ولكن يجب أن لا يكون دافعه


118


الهروب من تحمُّل المسؤوليَّة، على قاعدة "أفعلُ ما يقوله المسؤول، فأكون بعيدًا عن تحمُّل أيِّ مسؤوليَّة". لأنّ ذلك يضرب فلسفة أداء التكليف، ويحوّلها من عامل خلّاق وإيجابي إلى عامل هدّام وسلبي.

ج- عرض وجهة نظرك على المسؤول ونصيحته بهدف الوصول إلى تحديد الخيار الأنسب، فالنصيحة واجبة له، يقول الإمام عليٌّ عليه السلام: "وأمَّا حقِّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب..."4.

وإذا لم يقتنع بوجهة نظرك، وأصرّ على رأيه، وطلب منك تنفيذه، فعليك الامتثال للتكليف، بعدما تكون قد استنفدت كلَّ الطرق المشروعة لعرض وجهة نظرك. وهذا الخيار هو الأصوب والأفضل.

٢- التكليف غير المباشر:
هو التكليف الذي لا يُطلب منك بشكل مباشر، بل يجب عليك الشعور به وتحسُّسه والمبادرة إليه. والتحدِّي في هذا التكليف هو تشخيصه.


119


وهذا ما يحتاج إلى وعي وبصيرة وتحسُّس للمسؤوليَّة. يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "إنّ معرفة الأوضاع أمرٌ مهمٌّ يحتاج إلى البصيرة وكذلك الإحساس بالتكليف فهو مهمٌّ أيضاً، فروح الالتزام والإيمان يحتاج إلى شعور الإنسان بالتكليف. هناك بعضٌ ممّن يرى الأحداث العاصفة ويشاهد خطط الأعداء، ولكنّه لا يحسُّ بالتكليف ولا يحرّك ساكناً. بعض الناس يشاهد العدوّ قد تهيّأ ونظّم جبهته. عندما ينظّم العدوّ صفوفه على الجبهة، ينبغي لنا في المقابل أن نشعر بالتكليف، فهذه لازمة الالتزام والإيمان. بعض الناس لا يمتلك هذا الإحساس"5.

الآن يشن العدوُّ علينا حرباً ناعمة خطيرة جدًّا، فهل نشعر بتكليف المواجهة والتصدّي؟ أم نقول: هذه ليست مهمَّتنا، وأنَّ هناك جهات مهمَّتها التصدّي للحرب الناعمة؟

طبعًا هناك فرق بين الشعور بالتكليف والتدخُّل في عمل


120


الآخرين، فعندما تشعر بالتكليف للقيام بعمل ما، ويكون هناك جهة مسؤولة عن القيام بهذا العمل، عليك أن تقترح ما لديك على هذه الجهة، لا أن تقوم بالعمل بشكل مباشر بدون تنسيق مع الجهة المختصّة. فمن يشعر بالتكليف يهتمُّ بإنجازه بغضِّ النظر عن ماهية الجهة المنجزة. أمَّا إذا رفضتِ الجهة اقتراحك فعليك أن تسعى مرَّة بعد أخرى، وأن تحاول بالطرق المشروعة الوصول إلى إنجاز التكليف وتحقيقه.

إشكالية وردّ: هل أداء التكليف تعطيل للعقل؟

يخطئ البعض فهم أداء التكليف، فيراه تعطيلًا للعقل والفكر، وطاعةً عمياء لمن يعطي التكليف. ولكن التدقيق في فلسفة أداء التكليف يوضح حقيقة القضيَّة. فأداء التكليف لا ينافي التفكير والتخطيط والفهم والتنظير، بل يحتاجها في مواضع، منها:
١- في صناعة التكليف: فالقيادة الحكيمة هي التي تستعين بكلِّ الخبرات من أجل تشخيص التكليف وتحديده. فهي تحتاج إلى العلم والفكر والعقل لتحدِّد التكليف، ولكن بعد تحديده يصبح واجبًا على الجميع.


121


٢- في نصح المسؤول: فالمجاهد الحكيم هو الذي يضع كلَّ خبراته وإمكانياته في تصرُّف التنظيم، فينصح مسؤوله ويبذل جهده في الوصول إلى أفضل الآراء، وبعدها يلتزم التكليف.

٣- في تنفيذ التكليف:
التكليف لا يحدِّد خطوات العمل بطريقة تفصيلية ودقيقة جدًا، بل يترك هذا الأمر للشخص المكلّف، وهذا يتطلّب منه الإبداع والابتكار في تنفيذ التكليف.

ثمار أداء التكليف

إنّ لأداء التكليف، وثقافة محوريَّة التكليف الكثير من النتائج الإيجابية، نذكر منها:
١- أداء التكليف سبب لحلِّ المشاكل، واستنزال الرحمة الإلهية. يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "توجد نقطةٌ أساسيَّة هنا يجب علينا جميعاً أن نلتفت إليها وهي الشعور بالتكليف، والإخلاص في النية والعمل لله. فلو حصل هذا، فإنّ جميع مشاكلنا سوف تُحلّ، وسوف


122


تُفتّح الأبواب والطرق. لو حصل ذلك ستشملنا رحمة الله وعونه"6.

٢- أداء التكليف يصنع المبادرة والشجاعة ويزيل الخوف والتردُّد، ويكفل عدم الندم على أيِّ تصرُّف أو سلوك، لأنَّ الذي يعتقد بمحوريَّة التكليف يقدم على العمل، من دون خوف من عدم تحقُّق النتيجة، وهو مطمئنُّ بأنَّ الله تعالى راضٍ عنه لأنه يؤدي تكليفه، ولا يندم على ما فعله مهما كانت النتائج، لأنَّ عمله كان أداءً لتكليف إلهيّ واجب.

٣- أداء التكليف يرفع من تحمُّل المسؤولية، فثقافة التكليف تقول: ليس هناك من لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وكل إنسان مكلّف بالعمل على قدر استطاعته. فالتنصّل من المسؤولية بحجّة عدم القدرة على تحقيق النتيجة غير وارد في ثقافة التكليف.


123


٤- أداء التكليف يعزِّز قيمة التوكُّل على الله والثقة بوعده.

٥- أداء التكليف يحقِّق النصر الحقيقيَّ المتمثّل برضا الله عزَّ وجلَّ، وهو بالتالي يثبّت الإنسان، ويهوّن عليه الصعاب.

٦- أداء التكليف يؤمِّن النظْم في العمل. فأداء كل فرد لتكليفه، يمنع من تداخل الأعمال فيما بينها ويحقِّق الانسجام والتكامل.

٧- أداء التكليف يؤمِّن الوحدة في العمل، ويمنع من التشتُّت، لأنَّ مصدر التكليف أي الولاية يُحقِّق الانسجام ووحدة الهدف.


124


هوامش

1- سورة التوبة، الآية 105.
2- صحيفة الإمام، ج11، ص69.
3- المثال هنا على الأعمال غير المستعجلة، التي لا يضر بها التأخير، أما الأعمال المستعجلة التي يضر بها التأخير فيجب الامتثال الفوري لها، وتنفيذها بشكل مباشر.
4- نهج البلاغة، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2008، الخطبة 34، ص95.
5- من خطاب الإمام الخامنئي دام ظله عند لقائه جمعًا من أهالي مدينة قم المقدسة في 9/1/2011.
6- من خطاب الإمام الخامنئي دام ظله عند لقائه أعضاء مجلس الشورى الإسلامي في 13/6/2012.