المحاضرة الأولى: أهميّة العمل في الإسلام

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ1.

الهدف:

بيان قداسة العمل من المنظور الإسلاميّ وأن إنتاجية الإنسان أحدُ أركان أهميَّة وجوده ودوره في الحياة.


105


المقدَّمة
أكرم الاسلام العامل بمكانةٍ معنويَّةٍ مرموقة لا تبلغها أيُّ قيمة أخرى، ولا يمكن مقايسة المكانة المتميِّزة التي منحها الإسلام للعامل بأيَّة قيمة ماديَّة، وذلك لأنَّ نبيَّ الإسلام صلى الله عليه
وآله وسلم وهو سيِّد الخلق والأنبياء كلّهم كان يقبّل اليد العاملة.

ففي الرواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجع من تبوك استقبله أحد الصحابة، فقال له الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما هذا الذي أرى بيدك"؟ قال: من أثر المرّ والمسحاة، أضرب وأنفق على عيالي، فقبّل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال: "هذه يدٌ لا تمسّها النار".

لذلك أكَّدت الروايات الشريفة على أنَّ أجر العامل كأجر المجاهد في سبيل الله، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"2. وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: "الذي يطلب من فضل الله عزَّ وجلَّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله عزَّ وجل"3.


106


فالله تعالى لم يخلق الإنسان ويزوّده بكل هذه القدرات المادية والمعنوية إلا ليكدح ويعمل وينتج ويسعى ويأبىَ الجلوس والخنوع، وإلا كان وجودها عبثاً ولغواً، وكلَّما زاد سعي الإنسان
وكدحه، واشتدَّت حركته، ظهرت كفاءاته، وانصقلت شخصيتَّه؛ لذا وجب عليه أن يكون في حالة سعي وكدح دائم، ما دام على قيد الحياة، ويستلزم ذلك إعمال الفكر، وبذل الجهد، وتكثيف العمل والنشاط، لتحمُّل مسؤولية الخلافة، والقيام بدور الإعمار والقيادة.


107


محاور الموضوع
العمل في حياة الرسول الأكرم والأئمَّة الأطهار عليهم السلام

كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمَّة الأطهار عليهم السلام يفهمون الدين عملاً ونشاطاً، ولم يكن ليعيبهم أيُّ عمل يكفّون به وجوههم ويتوسَّلون به معاشهم، لكنَّهم لم يتَّكلوا على ذلك ولم يكتفوا به عن بذل الجهد وتحمل عناء العمل.

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقع ثوبه ويخصف نعله، ويحلب شاته، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله4.

ورُوي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وعلَيَّ جمع الحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميّز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام فجمع الحطب5.


108


ففي الجانب العبادي كان أمير المؤمنين عليه السلام يُجهد نفسه في القيام بالأوراد والنوافل. وفي الجانب الحياتي ورد أنه أعتق ألف مملوك من كد يده6. ويقول عنه حفيده الإمام محمَّد الباقر عليه السلام: "كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يخرج في الهاجرة في الحاجة قد كفاها، يريد أن يراه الله يُتعب نفسه في طلب الحلال"7.

ويتحدَّث الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن جده قائلاً: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يضرب بالمرّ - أي المسحاة - ويستخرج الأرضين"8.

وكان أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز9.

وكان أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: "نخلٌ إن شاء


109


الله فيغرسه فما يغادر منه واحدة"10. لذا لم يكن الإمام عليٌّ عليه السلام يأكل شيئاً من بيت المال بل كان طعامه نتاج زرعه وعمله.

وكان الإمام عليٌّ عليه السلام يشتري لوازم بيته بنفسه من السوق، ويحمل ما اشتراه بطرف ردائه، وذات مرة رآه الناس فتبادروا إليه وقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نحمله. فقال: "ربُّ العيال أحقُّ بحمله". وكثيراً ما كان يحمل التمر والملح بيده، ويقول: "لا ينقُص الكامل من كماله ما جرّ من نفعٍ إلى عياله"11.

يقول محمد بن المنكدر: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة فلقيني أبو جعفر الباقر عليه السلام وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ أما إني لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فردّ


110


عليّ، وهو يتصابّ عرقاً. فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال: "لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزَّ وجلَّ، أكفُّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله عزَّ وجلَّ"، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني12.

هكذا يقدِّم لنا الإمام الباقر عليه السلام درساً بليغاً في أهمية العمل لكلِّ إنسان، مهما كان موقعه وشرفه، ومهما كانت الظروف المحيطة به.

والعمل عند الأولياء ليس في حدود الحاجة، بل ضمن الإمكان والقدرة، فما دمت قادراً على العمل فعليك أن تعمل، وإن لم تكن محتاجاً لنتاج العمل، أو حتى وإن كنت لا تدرك نتاجه. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:


111


"إنِّي لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما أركب فيها إلا لالتماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال، أما تسمع قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ"13.

إنّ من يعزف عن العمل وتحصيل الإمكانات فإنه يبرهن على افتقاده لصفة الخير في نفسه، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا خير فيمن لا يحبُّ جمع المال من حلال"14.

وإذا تعذّرت على الإنسان بعض مجالات العمل، فعليه أن لا ييأس أو يستكين ويحكم على نفسه بالعجز، فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال: إنِّي لا أحسن أن أعمل عملاً
بيدي ولا أحسن أن أتَّجر وأنا محارف محتاج، فقال عليه السلام: "اعْمَل فاحْمِل على رأسك واستغن عن الناس، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حمل حجراً على عاتقه فوضعه في حائط له من حيطانه..."15. فالإنسان يجب أن لا يتحجج بأنه لا يحسن


112


العمل، إذ إنّ كثيرًا من الأعمال يمكن أن يؤدِّيها أيُّ شخص، فهي لا تحتاج إلى مهارات خاصَّة.

وروى عليّ بن أبي حمزة قال: "رأيت أبا الحسن عليه السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جُعلت فداك، أين الرجال؟ فقال: يا عليّ قد عمل باليد من هو خير منِّي في أرضه ومن أبي، فقلت له: ومن هو؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وآبائي عليهم السلام كلُّهم كانوا قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين"16.

وعن أبي بصير قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنِّي لأعمل في بعض ضياعي حتَّى أعرق وإنّ لي من يكفيني، ليعلم الله عزَّ وجلَّ أنِّي أطلب الرزق الحلال"17.

وعن أبي عمرو الشيباني قال: "رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق


113


يتصابّ عن ظهره فقلت: جُعلت فداك أعطني أُكْفِكَ، فقال لي: إني أحب أن يتأذَّى الرجل بحرِّ الشمس في طلب المعيشة"18.


114


هوامش

1- سورة الانشقاق، الآية:6.
2- الكليني، الكافي، ج5، كتاب المعيشة، باب من كدّ على عياله، ح1.
3- المصدر نفسه، ح2.
4- سنن النبي، الطبطبائي، ص117.
5- سفينة البحار، عباس القمي، ج1، ص415.
6- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج17، ص14.
7- المصدر نفسه، ص23.
8- م.ن، ص37.
9- م.ن، ص40.
10- م.ن، ص 41.
11- المدرسي، هادي، أخلاقيات أمير المؤمنين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1991، ص114.
12- الطوسي، محمد بن حسن، تهذيب الأحكام، ج6، ص325.
13- الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج17، ص28.
14- المصدر نفسه، ص28. ص33.
15- الكليني، م..س.، ج5، كتاب المعيشة، باب ما يجب من الاقتداء بالأئمة في التعرض للرزق، ح14.
16- المصدر نفسه، ح10.
17- م.ن، ح15.
18- م.ن، ح13.