اجتناب النزعة الدنيويّة

رفض الحرص على الدنيا في ثورة الإمام الحسين عليه السلام
كتب الإمام الحسين عليه السلام وصيّته التاريخيّة لأخيه محمّد بن الحنفيّة عند خروجه من المدينة وتوجّهه إلى مكّة والتي قال فيها: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".

أي: يا شعوب العالم, يا أخي محمّد! يا أهل المدينة, أيّها النّاس الذين يعيشون في أقطار العالم الإسلاميّ في ظلّ عار حكومة يزيد! يا أجيال تاريخ البشريّة الآتية! اعرفوا ما هو هدف هذه الثورة.

لم يسمح الإمام الحسين عليه السلام للأبواق الدعائيّة المفضوحة ليزيد بن معاوية أن تشتّت أهدافه وتضيّعها. يريد الإمام الحسين عليه السلام أن يوصل الحقيقة إلى آذان الجميع وأن يفهم الجميع:
"إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً".

والخلاصة أنّه:لم أخرج لدوافع ماديّة, ولم أخرج لكسب مقامٍ كيزيد, لم أثُر كطلّاب الدنيا التافهين لكسب منفعة ماديّة والاستفادة منها شخصيّاً. لم أذهب إلى كربلاء اهتماماً بدنياي الماديّة, إنّما كانت حركتي وخروجي لأجل هدف آخر. لقد خرجت من المدينة ثمّ عزمت إلى مكّة


231


لأقتلع هذا الفساد الذي أوجدَتْه الحكومة اليزيديّة والأمويّة. لقد أعددت نفسي للتضحية والشهادة لكي أسطّر بدمي وتضحيتي خطّ البطلان لكلّ التدابير والخطط اليزيديّة. لقد أتيت لكي أزلزل الأساس الفاسد لهذا النظام وهذه الحكومة1.

التلوّث بالدنيا, عائق أمام مواجهة جهاز الظلم والفساد

عندما نتحدّث عن فساد الجهاز (السلطة) من الداخل، فمعنى ذلك: ظهور أفراد في المجتمع ينقلون أمراضهم الأخلاقيّة المعدية والمهلكة - الدنيويّة والشهوانيّة - تدريجيّاً إلى باقي أفراد المجتمع.

في مثل هذه الحالة، من هو صاحب القلب والمبادرة والروية الذي سيمضي لمواجهة نظام يزيد بن معاوية؟! هل سيحدث مثل هذا الأمر حينها؟ فمن هو الّذي كان يفكّر بمواجهة النظام اليزيديّ الظالم والمفسد في ذلك الزمان؟

في مثل تلك الأوضاع حدثت النهضة الحسينيّة العظيمة، الّتي واجهت العدوّ مثلما واجهت روحيّة السعي للراحة والرضا بالفساد المهلك المنتشرة بين المسلمين العاديّين وعامّتهم. وهذا أمرٌ مهمٌّ. يعني أنّ الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام قام بعمل أيقظ وجدان النّاس
2.


232


الغفلة عن طريق الإمام الحسين عليه السلام نتيجة طلب الدنيا
هدف الإمام الحسين عليه السلام هو ذلك الهدف الذي يظهر في كلماته, مثل: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"3 أو "أيّها النّاس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله فلم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعلٍ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"4.

أو قوله: "فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا"5.

كلّ من هذه الكلمات درس وفصل.

فالكلام هنا عن لقاء الله، والهدف من خلق البشر، و ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ6.

كلّ هذه المساعي والمشاقّ لأجل هذا الأمر ﴿فَمُلَاقِيهِ، فمن كان موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل مع الحسين، ولا يجوز له المكوث في البيت والتعلّق بالدنيا ومتاعها والغفلة عن طريق الحسين عليه السلام.

فيجب أن نتحرّك، وهذا يبدأ بتهذيب النفس ثمّ التحرّك إلى المجتمع والعالم7.


233


اجتناب الحرص على السلطة
ينقل عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال: "اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام"8.

اللهمّ إنّك تعلم أنّ حركتنا, ثورتنا, مواجهتنا هذه للظلم والاستكبار ليست للوصول إلى مقام.. وليست لأجل كسب شيء لأنفسنا, حتّى تعود ملذّات الدنيا وحلوها علينا وحتّى ندّخر المال والثروة و.. وليست لكي نكسب بضعة صباحات إضافيّة نتمتّع بها في حياتنا الزهيدة والسريعة الانقضاء9.

اجتناب التفكير النفعيّ الخاطئ

يحيا الإسلام اليوم بدماء الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام, ولم يتصرّف الإمام الحسين عليه السلام انطلاقاً من التفكير النفعيّ, كما فعل بعضهم في ذلك العصر, وقال: لماذا يُقضى علينا؟! نبقى على قيد الحياة وندافع عن الإسلام. كان لبعضهم مثل هذا المنطق. وهم لم يدركوا أنّه متى كان البقاء على قيد الحياة هو الهمّ الأكبر لإنسان أو شعب أو أمّة، فلن يعود باستطاعتهم الدفاع عن الله وعن الإسلام والقيم10.

شعلة الإيمان بدل التعلّق بالحكومة, طريقة الإمام الحسين عليه السلام

بصيص الأمل الوحيد الذي كان يحمّس القلوب ويحفّز هؤلاء على التحرّك خلال عامَيْ (1962 و1963م)11 وما تلاهما من سنيّ المحنة والاضطهاد في السجون, هو الإيمان بالجهاد، لا الرغبة في بلوغ السلطة.


234


وهذا الخطّ هو ذاته خطّ الإمام الحسين عليه السلام، غاية الأمر أنّه كان له طرفان والظروف الزمانيّة والمكانيّة متغيّرة, فتارة تتوفّر الإمكانيّات فترفع الحكومة الإسلاميّة رايتها، وتارة تنعدم هذه الإمكانيّات فيؤول الخطّ إلى الشهادة, وكثيراً ما شهدنا نظير ذلك عبر التاريخ12.

الإمامة, النقطة المقابلة للحكم بالقوّة والخداع

ماهيّة الإمامة مغايرة لماهيّة السلطنة ومناقضة لها. فالإمامة تعني القيادة الروحيّة والمعنويّة والارتباط بالنّاس بالرباط العاطفيّ والعقائديّ، وأمّا السلطنة فتعني حكومة القوّة والشدّة والخداع بلا أدنى علاقة معنويّة أو عاطفيّة أو عقائديّة. فالإمامة والسلطنة تقفان على طرفي نقيض تماماً.

إنّ الإمامة حركة في وسط الأمّة ومن أجل الأمّة ولا تستهدف سوى الخير. بينما تعني السلطنة تلك السلطة المتجبّرة الآخذة بأعناق النّاس، والتي تهدر حقوقهم، وتتجاهل مصالحهم من أجل فئة خاصّة، وتعمل لإثراء الطبقة الحاكمة وإشباع نزواتها..


ما رأيناه في زمن ثورة الإمام الحسين عليه السلام هو تلك الثانية لا الأولى، أي أنّ يزيد الحاكم لم يكن على علاقة بالنّاس، ولم يكن من أهل العلم، ولم يكن تقيّاً ولا نقيّاً ولا حكيماً، كما لم تكن له سابقة في الجهاد في سبيل الله، ولم يكن يؤمن قدر ذرّة بمعنويّات الإسلام، ولم يكن سلوكه سلوك إنسان مؤمن، ولم يكن قوله قول حكيم عاقل, كان عارياً عن أيّ شبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي مثل هذه الظروف سنحت الفرصة للإمام الحسين عليه السلام ليقوم بثورته، وهو الإمام الذي كان يجب أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أداء مهمّته.


235


لو نظرنا إلى هذه القضيّة, في الظاهر, فإنّ هذه الثورة ثورة على حكومة يزيد الفاسدة وغير الشعبيّة، وأمّا من حيث الباطن, فهي ثورة من أجل القيم الإسلاميّة وفي سبيل العلم والإيمان والكرامة وبغية إنقاذ النّاس من الفساد والانحطاط والجهالة. ولهذا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام لدى خروجه من المدينة كتب وصيّته التاريخيّة لأخيه محمّد بن الحنفيّة والتي قال فيها: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"13.


236


هوامش

1- كلمته في 29/8/1357ش- 20/11/1979 م.
2- في جمع من عناصر الحرس الثوريّ والقوّات العسكريّة بمناسبة 3 شعبان, 6/11/1371ش - 26/1/1993م.
3- بحار الأنوار, ج44, ص329.
4- تاريخ الطبريّ, ج4, ص304.
5- اللهوف, ص38, نزهة الناظر وتنبيه الخاطر, ص86, بحار الأنوار, ج44, ص367.
6- سورة الانشقاق, الآية: 6.
7- في لقاء العلماء والمبلّغين وقرّاء العزاء على أعتاب قدوم شهر محرّم الحرام, 3/3/1374ش- 24/5/1996 م.
8- تحف العقول, ص239, بحار الأنوار, ج97, ص80-81.
9- في لقاء العلماء والمبلّغين على أعتاب شهر محرّم الحرام, 23/1/1378ش- 12/4/2000 م.
10- في لقائه عوائل شهداء كتيبة الحرس " قدر 9", 24/2/1363ش - 14/5/1985 م.
11- بداية إرهاصات الثورة والتحرّكات الشعبيّة وبيانات الإمام والاعتقالات والإبعاد و...
12- في لقاء العلماء والمبلّغين على أعتاب شهر محرّم الحرام, 23/1/1378ش- 12/4/2000 م.
13- بحار الأنوار, ج44, ص329.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي