الليلة الخامسة

مجلس مسلم بن عقيل:

خَطْبٌ أَصَابَ مُحَمَّداً وَوَصِيَّهُ
أَفْدِيهِ مِنْ فَادٍ شَرِيعَةَ أَحْمَدٍ
خَذَلُوهُ وَانْقَلَبُوا إِلَى ابْنِ سُمَيَّةٍ
آوَتْهُ طَوْعَةُ مُذْ أَتَاهَا وَالعِدَا
حَتَّى هَوَى بِحَفِيرَةٍ صُنِعَتْ لَهُ
فَاسْتَخْرَجُوهُ مُثْخَناً بِجِرَاحِهِ
قَتَلُوهُ ثُمَّ رَمَوْهُ مِنْ أَعْلَى البِنَا
رَبَطُوا بِرِجْلَيْهِ الحِبَالَ وَمَثَّلُوا
مُذْ فَاجَأَ النَّاعِي الحُسَيْنَ عَلَتْ عَلَى
وَلَهُ ابْنَةٌ مَسَحَ الحُسَيْنُ بِرَأسِهَا
لَمَّا أَحَسَّتْ يُتْمَهَا صَرَخَتْ أَلَا

لِلهِ خَطْبٌ قَدْ أَطَلَّ جَلِيلُ
بِالنَّفْسِ حَيْثُ النَّاصِرُونَ قَلِيلُ
وَعنِ ابْنِ فَاطِمَةٍ يَزِيدُ بَدِيلُ
مِنْ خَلْفِهِ عَدْواً عَلَيْهِ تَجُولُ
أَهْوَتْ عَلَيْهِ أَسِنَّةٌ وَنُصُولُ
وَالجِسْمُ مِنْ نَزْفِ الدِّمَاءِ نَحِيلُ
وَعَلَى الثَّرَى سَحَبُوهُ وَهْوَ قَتِيلُ
فِيهِ فَلَيْتَ أَصَابَنِي التَّمْثِيلُ
فِقْدَانِ مُسْلِمَ رَنَّةٌ وَعَوِيلُ
وَاليُتْمُ مَسْحُ الرَّاسِ فِيهِ دَلِيلُ
يَا وَالِدِي حُزْنِي عَلَيْكَ طَوِيلُ


47


شعبي:

قلبي كسرته يا غريب الغاضرية
تمسح على راسي ودمع العين همال
والله يا عمي هاي ما كانت على البال

مثل اليتامى تمسح بكفك عليَّ
كني يتيمة الكافي الله من هالاحوال
خليت عبراتي على خدي جريّة


جواب الحسين عليه السلام:

جاني الخبر عن حال مسلم يا حزينة
وبالحبل بالاسواق جسمه ساحبينه      

غدرته الكوفة وظل وحيد يدير عينه
وراس البطل راح للطاغي هدية


جواب حميدة:

أنا قاعدة ولن البصيرة      
يبويه يمسلم والله حيرة        

على الوالدها لماليش غيره
يتيمة صرت وانا زغيرة


جواب مسلم:

يا حميدة بلغي المولى سلامي
يا حميدة بالقصر ذبحوني ظامي
يا حميدة ساحت دمومي ورمامي

يا حميدة غدرت الكوفة بمقامي
يا حميدة بالحبل جرّوا عظامي
 


جواب حميدة:

بوي مسلم كحِّل بعينك عيوني      
بوي مسلم آل أمية مرمروني
بوي مسلم ويَّ أحبابك سبوني

بوي مسلم وامسح بكفك جفوني
بوي مسلم عنك بغربة رموني
 


48


هذه الليلة عادةً تُخصَّص لتلاوة مصيبة الشهيد العظيم والسفير لأبي عبد الله الحسين عليه السلام وهو مسلم بن عقيل بن أبي طالب سلام الله عليه باب الحوائج إلى الله الغريب المظلوم والممهِّد لثورة الحسين عليه السلام.

ومن المهمّ أيضاً أن نشير إلى الممهَّدين أو بعضم الذين كان لهم دور في بداية ثورة الحسين وفي إيصال صوت الحسين عليه السلام إلى بعض المناطق الإسلاميّة، وهنا نذكر بعضهم:

1 ـ سليمان بن رزين سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى البصرة والذي أرسله الإمام وحمّله رسالة إلى أهل البصرة وأعينهم ووجوههم والذي وصل إلى البصرة وكان عليها عبيد الله ابن زياد (قبل أن يخرج منها إلى الكوفة، باعتبار أنّ يزيد ضمَّ إلى ابن زياد مضافاً إلى ولاية البصرة ولاية الكوفة في كتاب ذكره المؤرّخون).

المهمّ أنّ سليمان هذا أوصل الرسالة حتّى وشى به بعض وجوه البصرة عند ابن زياد، فقبض عليه وقتله قبل أن يخرج ابن زياد إلى الكوفة، وهو أوّل الشهداء السفراء في ثورة الحسين.
2 ـ عبد الله بن يقطر الذي كان سفيراً للحسينعليه السلام إلى ابن


49


عقيل برسائل وأيضاً كان يأخذ الجواب من ابن عقيل إلى الحسين، وقد قبض عليه الحصين بن نمير عند مشارف الكوفة وجاء به إلى ابن زياد فقتله.

3 ـ قيس بن مسهَّر الصيداويّ أيضاً سفير الحسين عليه السلام جاء بكتاب من الحسين عليه السلام فقُبض عليه وجيء به إلى ابن زياد، فسأله ابن زياد عن الكتاب وما فيه وإلى من أُرسل(وكان قد خرَّق الكتاب وقيل ابتلعه) فرفض الإفصاح بأيّ شيء فخيّره ابن زياد بين أن يذكر تفاصيل الكتاب أو يصعد المنبر ويسبّ(الكذاب ابن الكذاب) والعياذ بالله يعني الحسين عليه السلام. فأجابه قيس إلى الثانية وصعد المنبر وقال: أيّها النّاس، إنّ الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول الله خير أهل الأرض، وقد أرسلني إليكم وهو بالحاجر من بطن الرقَّة فأجيبوه، ثمّ أثنى على الحسين عليه السلام ولعن ابن زياد ونزل، فأمر به ابن زياد فقتلوه، وقيل إنّهم رموْه حيّاً من أعلى القصر فتقطّع بدنه ومات رضوان الله عليه.

4 ـ هانىء بن عروة، كان سيّداً في قومه ووجهاً من وجوه أهل الكوفة، وموالياً لأهل البيت عليهم السلام، وكان له دور في التفاف النّاس حول مسلم بن عقيل وأخذ البيعة للحسين عليه السلام،


50


وأيضاً كانت داره منزلاً لمسلم بن عقيلعليه السلام، وقد اعتقله ابن زياد بحيلة سياسيّة معقدّة بعد أن أعطاه الأمان فلمّا مثُل هانىء في مجلسه طالبه ابن زياد بمسلمعليه السلام ثمّ أهانه وضربه على وجهه حتّى هشَّم أنفه ثمّ حبسه، وقتله فيما بعد، وكان لاعتقاله أثر كبير في انتكاسة حركة مسلم في الكوفة. وقد ربطوا الحبال برجليه ورجلي مسلمعليه السلام وجرّوهما في أسواق الكوفة رضوان الله عليهما.

5 ـ مسلم بن عقيل ابن عمّ الإمام الحسين عليه السلام الذي ارسله الحسين عليه السلام إلى الكوفة بعدما جاءته رسلهم الكثيرة التي تحثّه على القدوم عليهم، وقد كتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى أهل الكوفة مع مسلم جاء فيه:

من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المسلمين، أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قدِما عليَّ بكتبكم وكانا آخر الرسل منكم وقد فهمتُ كلّ الذي قصصتم وذكرتم أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا على الهدى والحقّ، وبعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم، فإن كتب أنّه قد اجتمع رأي ملإكم وذوي الفضل والحجّة منكم أُقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري


51


ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط والدائن بالحقّ والحابس نفسه على ذات الله والسلام.

وهذا الكتاب طبعاً يبيّن فضل مسلم بن عقيل، حيث إنّه شخصيّة مرموقة في أهل البيت عليهم السلام وقد وصفه الإمام عليه السلام بأنّه أخوه، ووصفه بأنّه ثقته، وهذا الوصف الأخير يبيِّن أنّ شخصيّة مسلمعليه السلام إلى جانب صلة القرابة التي تربطه بالحسين عليه السلام وحالة القرب المعنويّ من الحسين عليه السلام حتّى وصفه بأنّه أخوه، فهو شخصيّة موثوقة مناسبة لهذه السفارة، ذات حنكة سياسيّة ودراية تامّة بثورة الحسين عليه السلام وأهدافها، ووعي تامّ للمسؤوليّة الملقاة على عاتقه وهذا ما أظهره مسلم ابن عقيل في الكوفة في مواقف عديدة ومناسبات مختلفة.

هذا فضلاً عن إيمانه وإخلاصه وولائه لسيّد الشهداءعليه السلام. ولذلك نرى الحسين عليه السلام يبكي في وداع مسلم ويضمّه إلى صدره فيتعانقان ثمّ يقول له: وإنّي لأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء يوم القيامة.

ومضى مسلم بن عقيل في هذا السبيل، وقد بكت على مصيبته وغربته العيون، حتى عَيْنَا سيّد الشهداء.

فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام


52


أنّه قال لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم يوماً: يا رسول الله إنَّك لتحبّ عقيلاً؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: إي والله، إنّي لأحبّه حبّيْن، حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي طالب له. وإنّ ولده(يعني مسلماً) لمقتول في محبّة ولدك(يعني الحسين) فتدمع له عيون المؤمنين وتبكي عليه الملائكة المقرّبون، ثمّ بكى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم وقال، إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي.

ومضى مسلم إلى الكوفة، ووصل إليها وبايعه النّاس حتّى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألف مبايع، وقد أرسل بعد ذلك كتاباً إلى الحسين عليه السلام جاء فيه: أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف مبايع، فأقبل حين يأتيك كتابي، والسلام.

ولكن أين كان هؤلاء المبايعون لمسلم بن عقيل؟ فدخول ابن زياد إلى الكوفة وترهيبه وترغيبه وملاحقاته وسجونه التي مُلئت بشيعة أهل البيت وحبسه لهانىء بن عروة، وما إلى ذلك من الظروف المعقّدة التي عاشتها الكوفة وأهلها في تلك الفترة قلبَتْ الأمور رأساً على عقب.

حتّى تجد أنّ مسلماً الذي بايعه الآلاف كان قد وصلت به الأمور إلى أن يمشي متلدّداً في شوارع الكوفة لا يجد حتّى من يدلّه على طريقه.


53


عندما نبكي على مسلم فإنّنا نبكي فيه أموراً كثيرة منها:

غربة مسلم بن عقيل، فمسلم غريب في الكوفة.

أطفال مسلم الغرباء، ومنهم طفلان محمّد وإبراهيم اللذان ضاعا بعد يوم العاشر من المحرّم حتّى قتلا بطريقة بشعة ومؤلمة ذكرها لنا المؤرّخون، ولهذين الطفلين مزار شامخ في العراق يزوره النّاس، والطفلة حميدة التي سنأتي على ذكرها في مصيبة مسلم.

عطش مسلم بن عقيل الذي انتهى به الأمر عند باب طوعة المرأة الموالية التي لم تنسَ حكومة عليّعليه السلام وعدله والتي لمّا طلب منها مسلم الماء(وقد كانت تنتظر عودة ولدها على باب دارها) دخلت إلى الدّار وجاءته بالماء فشرب ثمّ أدخلت القدح إلى الدّار، ولمّا خرجت وجدت مسلماً لا يزال جالساً عند باب دارها، قالت له يا عبد الله ألم تشرب الماء؟ قال بلى، قالت إذاً ما جلوسك على باب داري؟ اذهب إلى أهلك وعشيرتك فإنّي لا أحلّ لك الجلوس على باب داري.

يقللها وعينها مستديرة
أنا مثل حيرتي ما جرت حيرة

أنا لا أهل عندي ولا عشيرة
أنا مسلم الفاقد نصيره


54


قال لها: أمة الله، أنا مسلم بن عقيل ليس لي في مصركم هذا أهل ولا عشيرة.

صاحت يا غالي ما عرفتك ولون ادري يا مسلم ما نشدتك

قالت له: أنت مسلم بن عقيل، لله درّ عمّك عليّ بن أبي طالب، ادخل الدّار.

أدخلته داراً غير التي كانت تسكنها فقضى ليله بالعبادة والتهجّد وقراءة القرآن اضطجع قليلاً فرأى عمّه أمير المؤمنين عليه السلام في منامه وهو يقول: يا مسلم، أنّك صائر إلينا عن قريب. أفاق على وقع حوافر الخيول، فلبس لامة حربه وخرج إليهم يقاتلهم وطوعة من خلفه تعطيه الماء، وتشجّعه على القتال حتّى أكثر القتلى فيهم لشجاعته وبأسه، حتّى أمدهم ابن زياد بالجند، فتكاثروا عليه، وكانوا يرشقونه بالنّبال، وبعضهم يلهب النّار بأطناب القصب ويرمونها عليه من سطوح الدور، وقد اختُلف في كيفيّة اعتقاله حتّى قالوا إنّه وقف ليستريح فحفروا له حفيرة وانكشفوا من بين يديه فشدّ عليهم حتّى سقط في تلك الحفيرة فانتزعوا سيفه واستخرجوه من الحفيرة، فدمعت عيناه، قيل له: يا مسلم إنّ الذي يطلب مثل الذي طلبت لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك، فقال: والله ما لنفسي بكيت وإنّما أبكي لأهلي المقبلين، لحسين وآل حسين.


55


(والله) وين الذي ينهض بهالحين
يقلا مسلم وحيد وماله معين

لارض المدينة ويخبر حسين
كتفوه وظل يدير بالعين

ثمّ حملوه إلى قصر الإمارة وأدخلوه على ابن زياد وجرى بينهما حوار حادّ انتهى بأن أمر ابن زياد بضرب عنق مسلم فصعدوا به إلى أعلى القصر استمهلهم لحظات فصلّى ركعات ثمّ وجّه وجهه ناحية المدينة قائلاً: السلام عليك يا أبا عبد الله، ثمّ أدنوه من أعلى القصر وضربوا عنقه ورموا بحثّته إلى الأرض.
 

والمقدّر قضى وشاعت أخباره

رموه القوم من قصر الإمارة


ثمّ ربطوا برجليه الحبال وجرّوه في الأسواق.

المصيبة لمّا وصل الخبر إلى الحسين عليه السلام وهو في زرود، اغرورقت عينا أبي عبد اللهعليه السلام بالدموع وبكى أصحابه حتّى ارتجّ الموضع بالبكاء. ثمّ التفت الحسين ونادى أخته زينب: أخيّه عليَّ بطفلة مسلم حميدة. جاؤوه بحميدة الطفلة اليتيمة، وضعها في حجره جعل يمسح على رأسها، أحسّت الطفلة بيتمها قالت: عم أبا عبد الله، ما لي أراك تمسح على راسي كما يمسح على رؤوس اليتامى؟ هل أصيب والدي بشيء؟ فقال عليه السلام: بنيّة من الآن أنا أبوكِ.


56


شبقهه ويمسح الدمعات بايده

تقله يعمي ابوي وينه
من طرشته ولا عاد لينه
عمي يا عمي وين ابويه اليوم وينه
شيصبر المشتاق لو فارق احبابه
أسهر وتاين قلبي مجروح بعذابه
عمي يا عمي راح وخلاني وحدي عمي
تمسح على راسي وتناظر لي بعينك
أنظر بحسرة شابحة عيني لونينك
 

أبو انا صرت لك يا حميدة
شوفة والدك صارت بعيدة

ومن زمان ما بيّن علينا
يمكن ابوي قاتلينه
سهرانة انطر أرد اشوف اليوم عينه
وشيصبر المجروح لو طال بغيابه
ليش الغياب وشنهي اعذاره واسبابه
يا عمي ابكي ودموعي على خدي
عمي اشوفك تقعد تقوم بعينك
عمي اشوف الحزن باين على عينك


57


عمي يا عمي اروح طلعت من همي
تدري يا عمي الفاقدة يزداد مها
يغمرها بعطفه وحنانه ويضمها
عمي يا عمي اخذ عمري وخل اشوفه
لَمْ يُبْكِهَا عَدَمُ الوُثُوقُ بِعَمِّهَا
لكِنَّهَا تَبْكِي مَخَافَةَ أَنَّهَا

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

عمي يا عمي أرد ابوي اليوم يمي
محلا البنت لو كان ابوها يمها
يناديها يا بنيتي ويدللها ويشمها
موعادته يغيب ولا تبعده ظروفه
كَلَّا وَلَا الوَجْدُ المُبرَّحُ فِيهَا
تُمْسِي يَتِيمَةَ عَمِّهَا وَأَبِيهَا
 


58