الليلة الثانية

مجلس وداع المدينة
 

قِفْ إِنْ وَصَلْتَ لِرَوْضَةِ الزَّهْرَاءِ
وَاسْكُبْ دُمُوعَكَ حَسْرَةً وَتَلَهُّفاً
وَاذْكُرْ رَزَايَاهَا الَّتِي صُبَّتْ عَلَى
وَاذْكُرْ بِوَقْفِكَ الحُسَيْنَ وَقَدْ أَتَىْ
لَمَّا تَزَاحَمَتِ الهُمُومُ بِقَلْبِهِ
فَهَوَى عَلَى القَبْرِ المُشَرَّفِ يَشْتَكِي
أُمَّاهُ أَنَا عَنْ جِوَارِكِ مُبْعَدٌ
أُمَّاهُ هَلْ أَعْفُو لِجَوْرِ أُمَيَّةٍ
أُمَّاهُ أَخْبَرَنِي النَّبِيُّ وَصِنْوُهُ
أُمَّاهُ فِي عَيْنِي صَحَائِفُ مَصْرَعِي

وَاخْشَعْ لِحَضْرَةِ كَعْبَةِ الأَرْزَاءِ
وَأَذِبْ حَشَاكَ بِمُقْلَةٍ حَمْرَاءِ
قَلْبِ النَّبِيِّ بِكَامِلِ الأَشْجَاءِ
قَبْرَ البَتُولَةِ فِي أَمَضِّ لِقَاءِ
وَعَلَيهِ سَدَّ الجَوْرُ كُلَّ فَضَاءِ
 مَا قَدْ يُلَاقِي مِنْ عَظِيمِ بَلَاءِ
وَعَلَى أَذَايَ تَكَالَبَتْ أَعْدَائِي
وَأَنَا الحُسَيْنُ سَلِيلَةُ العَلْيَاءِ
عِنْدَ المَمَاتِ بِأَفْجَعِ الأَنْبَاءِ
فِي كَرْبَلَاءَ وَحَيْرَتِي وَبَلَائِي


17


شعبي:

مشتاق أشوفك قبل أرحل يا زكية
يمّه مثل حالي أبد ما صار أي حال
واشوف بيّن في سما الأهوال الهلال
طالع وعندك فاطمة بنتي وديعة
مكسور خاطرها وحالتها فظيعة

أقسم عليك بضلعك تردي عليّ
أنا مطرود من طيبة وعندي حرم وأطفال
ليتك تشوفي هلال ذبحي بها المسية
فوق المرض ما تحتمل ضيم وفجيعة
عساني الموت ولا تنظرني بهالحال

 

أوصي عليك يا يمه عند الموت حضريني
وإذا شفتي الشمر جاني على الطبرات صبريني
أوصي عليك يا يمه غسلي دموم عن نحري
أريدنك تجمعيها وتخليها بوسط قبري
من نومتك قعدي يمكسورة الضلعين
ما كانت العادة عن ولادك تصدين
 

وإذا جان السهم مسموم أريدنك تداويني
وحطي ايدك بصدري تراهو منشطر شطرين
وإذا شفتي الخيل بالميدان تقطع أوصال من صدري
أخافن زينب تجيني يا ويلي وتلطم الخدين
نشفي دمع عيني تراني أنا عزيزك حسين
خان الدهر وتشمتت بينا الأعادي


18


جواب الزهراء عليها السلام

يبني فطرت قلبي من وداعك يا حبيبي
لبكي عليكم بالقبر يعله نحيبي

يا حسين هالسفرة ترى ما هي بطيبي
 


جواب الحسين عليه السلام

يمة يا يمة ريتك تضميني
يمة يا يمة ريتك تشوفيني
يمة يا يمة جيتك تودعيني

ما انا الغريب حسين عنك يبعدومي
واقف على قبرك واشكيلك اشجوني
رايح انا يمة بالمحشر تلاقيني


عن الإمام الصادقعليه السلام أنّه قال لصاحبه الفضيل بن يسار: إنّي أحبّ هذه المجالس، أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا.

ويقولعليه السلام وهو يدعو لمقيمي هذه المجالس والباكين فيها على الحسينعليه السلام وزوّاره: اللهمّ ارحم تلك الخدود التي تقلّبت على قبر جدّي الحسينعليه السلام، اللهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا أهل البيت عليهم السلام.
وما ذلك إلّا لأنّ تضحيات الحسين عليه السلام كانت في سبيل


19


إحياء هذا الدّين وإعادة النّاس في تلك الحقبة، بل وفي كلّ زمان، وفي كلّ جيل من خلال هذه النهضة الحسينيّة، إعادتهم إلى إسلام محمّد بن عبد اللهصلى الله عليه وآله وسلّم الأصيل. بعد أن حاول الأمويّون في زمان معاوية ويزيد، قلب الحقائق وإعادة الأمّة إلى جاهليّتها وعقدها وخلالها من خلال إظهار البدع وتشويه العقائد وإفشاء المفاسد الأخلاقيّة في المجتمع الإسلاميّ وإدخال غير المسلمين إلى مراكز حسّاسة في الدولة الإسلاميّة الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه، ونشر العقائد الباطلة من خلال ظهور بعض الاتجاهات الفكريّة التي هي صنيعة السلطة والتي تُسوِّغُ كلّ مساوئ وتصرّفات السلاطين.

هذا ما أراد له معاوية أن يستمرّ من خلال أخذه البيعة لولده يزيد الفاسق الفاجر جهاراً نهاراً من المسلمين حتّى يضمن استكمال مشروعه ووصوله إلى الذروة في هذا التضليل والتشويه وتمكين الفسقة من رقاب المسلمين. وهذا إذا حصل كان ليشكّل الضربة القاصمة لدين الله ولشريعة رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم ولو قدّر ليزيد أن يحكم كما أراد له معاوية دون أي مشكلة ودون منازع لكان هذا الدّين قد دفن بالفعل، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسينعليه السلام نفسه في كلامه مع مروان بن


20


الحكم، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد بن معاوية. وهذا كلام واضح صريح يبيّن وضوح الصورة أمام الإمام الحسينعليه السلام وأنّه إن تمّ هذا الأمر ليزيد كان ليؤدّي إلى دفن الإسلام ومعالمه وآثاره، وصار الإسلام الموجود والذي يعرفه النّاس إسلاماً محرّفاً غير حقيقيّ، إسلاماً هشّاً جاهليّاً أمويّاً لا يمتّ بصلة إلى صاحبه وهو محمّدصلى الله عليه وآله وسلّم.

وكان الإمامعليه السلام على استعداد تام لكلّ ما يمكن أن يتطلّبه أمر حماية الدّين وصونه من الانحراف حتّى لو كان ذلك المطلوب هو أن يقدِّم الإمام الحسينعليه السلام نفسه ودمه فداءً لذلك الدّين.

ولذلك كان لا بدّ من الموقف، ولا بدّ من الثورة، ولا بدّ من الشهادة، "شاء الله أن يراني قتيلاً ويراهنَّ سبايا".

فقرّرعليه السلام الخروج وكان الدافع من خروجه هو حماية الدّين كما ذكرنا: ما خرجتُ أشِراً ولا بطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالما,ً وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي.

ولم يكن قد وصل إليه آنذاك وهو بالمدينة أيُّ رسالة تدعوه للخروج، وبالتالي كان خروجه في طلب الإصلاح محضاً، ولم تكن لرسائل أهل الكوفة فيما بعد والتي توالت عليه في مكّة أي دخالة في هدفيّة الخروج.


21


وبعد كلّ هذا، عندما عرض عليه والي المدينة البيعة ليزيد، قال له الحسين عليه السلام بشكل واضح جليّ لا يحتمل التأويل: أيّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمر معلن بالفسق قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة.

ومضى الحسين عليه السلام بعد إعلانه هذا الموقف يتهيّأ للخروج من المدينة، وفي ليلة خروجه جاء إلى قبر جدّه مودّعاً صلّى عند القبر ركعات ثمّ جلس عنده يبكي ويبكي إلى أن غفا ونام، فرأى جدّه في المنام في كتيبة من الملائكة ورعيل من الأنبياء ضَمّ الحسين إلى صدره وهو يقول:

بنَّي حسين إنّ أمّك وأباك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك، ألا فالعجل العجل.

فجعل الحسين عليه السلام يبكي ويقول يا جدّاه لا حاجة لي في دار الدنيا خذني إليك.

فجعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يقول:

بني حسين، كأنّي بك عن قريب مذبوحاً بأرض كرب وبلا


22


بين عصابة من أمّتي لا أنالهم الله شفاعتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تروى.

وصل ويلي لقبر جده وبكى
هوى فوق الضريح وصاح صوتين
يجدي بوسط لحدك ضمني وياك
يقله يا حبيبي وعدك هناك

حسين يودعه والدمع يهمل من العين
يجدي مفارقك غصبن عليَّ
عساني الضيم شفته عقب عيناك
تروح وتنذب حب الغاضرية

 

ضُمَّنِي عِنْدَكَ يَا جَدَّاهُ فِي هَذَا الضَّرِيحْ
ضَاقَ بِي يَا جَدُّ مِنْ فَرْطِ الأَسَى كُلُّ فَسِيحْ
جَدُّ صَفْوُ العَيْشِ مِنْ بَعْدِكَ بِالأَكْدَارِ شِيبْ
فَعَلَا مِنْ دَاخِلِ القَبْرِ بُكَاءٌ وَنَحِيبْ

عَلَّنِي يَا جَدُّ مِنْ بَلْوَى زَمَانِي أَسْتَرِيحْ
فَعَسَى طَوْدُ الأَسَى يَنْدَكُّ بَيْنَ الدَّكَّتَيْنْ
وَأَشَابَ الهَمُّ رَأْسِي قَبْلَ إِبَّانِ المَشِيبْ
وَنِدَاءٌ بِافْتِجَاعٍ يَا حَبِيبِي يَا حُسَيْنْ

ويقولون: إنّه زار في تلك الليلة قبر أمّه فاطمة عليها السلام

واقف على قبرك يا يمه وهمي واقف وياي
ضميني بحضنك قبل تذبحني اعداي
ماشي بطريق الموت وهذا آخر وداع
وأظن روحي يا يمه تنازع نزاع

تعبان من جور الدهر ما غفت عيناي
انه العزيز دارت عليه الدنيه
يمه بأمان الله يمكسورة الأضلاع
وين المدينة ووين أرض الغاضرية

ودّع قبر جدّه وأمّه وحان الموعد لفراق مدينة رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم وتهيّأ موكب الحسين عليه السلام.


23


ثمّ تهيّأ الموكب للخروج، فودّع الحسين عليه السلام زوجات رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم وكذلك أمّ البنين عليها السلام وابنته فاطمة العليلة التي تركها الحسين عليه السلام في المدينة لعلّتها ومرضها وقد أصرّت هذه الطفلة على أبيها الحسين عليه السلام أن يأخذها معه إلى العراق لكنّه آثر بقاءها في المدينة.

صاح ارشد يحادي
هيهات أصبر على الضيم
لن صوت العليلة تصيح
يا أهلي وياكم أخذوني
عليكم يعمن عيوني
وروحي المرض سلاها

وسير وتقدم على ظعوني
وعليه تغمض عيوني
يا أهل الظعن تانوني
وحدي لا تخلوني
فرقاكم هدم حيلي
 

 

يويلي ومن سمعها حسين
قعد عدها يصبرها
يقلها يا ضيا عيوني
يبويه للوطن ردي

رد من الظعن ليها
وعلى الفرقة يسليها
دمعتك لا تهليلها
ونتك ذوبت كبدي

صبَّرها الحسين عليه السلام ولكنّها جاءت تودّع أهلها وأخوتها حتّى إنَّهم يقولون: إنَّها وقفت أمام الرّباب زوجة الحسين عليه السلام وقالت لها: ناوليني أخي عبد الله أودّعه، أخذته بين يديها


24


وجعلت تقبّله، وطلبت من الحسين عليه السلام أن يتركه عندها تتسلّى به على فراق أهلها، فرفض الحسين عليه السلام طلبها لعلمه بمصرع الرضيععليه السلام في كربلاء، وسار موكب الحسين عليه السلام وفاطمة تنتقل من محمل إلى محمل في وداعها ولسان حالها.

أنا جويعدة وحمّل ظعنهم
ويحملون وآنا اتفكر لهم
وحدي بها لوطن لا تخلوني
يبوي أخذوني وياكم أسرج على الخيل
شسوي أرد للوطن ودموعي تسيل

وكني غريبة وماني منهم
يبويه وياكم خذوني
عقبكم يا هلي يعمن عيوني
وحظ فراشكم لو كلكل الليل
بكت ودموعها تفسر المرمر

ذهبت إلى أبي الفضل العبّاس

متعجبة منكم يا فرسان الحمية
نشف دمعتي والتفت يا عمي ليّه

كلكم هواشم وها شيمكم هاشمية
حاكي أبوي لا يخليني غريبة


25


العبّاس عليه السلام يخاطب الحسين عليه السلام

يقلا يخوي هالبكا والنوح فتني
يقله شسوي وكتبة الله قيدتني

وبنتك تراهي هالعليلة ذوبتني
ما اقدر أشوف دموعها عالخد جرية


فبكى الحسين عليه السلام لمّا قال العبّاس أنا أتكفّلها كما أتكفّل زينب

هذي ما هي مكتوب تتودّى هدية
ردي يا بنتي وردتك صعبة عليّ

ولا هي يا خوي من سبايا الغاضرية
 


رجعت فاطمة العليلة:

وأيست من سمعت كلامه
لظل الليل بعدك ما أنامه

صاحت مودّع بالسلامة
 


وكانت تقف تسأل عن الحسين:

أنا أقعد على درب الظعون
وبأخبار الغاضرية بلكي يدرون

أسايل اليرحون ويجون
 


كانت إذا جلست في البيت:

يا دار حاكيني على الراح

يا دار وين حسين راح


بقيت فاطمة العليلة تنتظر خبراً عن الحسين عليه السلام فتسأل


26


عنه الركبان ولكن لم يصِلْ إليها أي جواب، إلى أن دخل الناعي بشر بن حذلم إلى المدينة، ينعى الحسين عليه السلام، وطبعاً خرج أهل المدينة بأجمعهم وفاطمة العليلة تقدّمت إلى هذا الناعي تسأل عن الحسين عليه السلام فقال لها الناعي: اذهبي إلى قبر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلّم ولذلك انكسر قلبها وطبعاً من الذين فجعوا بهذا النعي هو أمّ البنين عليها السلام والقصّة مفصّلة ولسان حالها:

جاوبوني
جاوبوني
جاوبوني
جاوبوني

ما أشوف حسين وينه
فدوى أولادي لولينه
بدمه سابح ذابحينه
قلبي ذايب من ونينه

 

ثمّ أقبلت أمّ البنين وفاطمة العليلة إلى السبايا تسألانِ عنهنّ وعن زينب ورقيّة وسكينة طبعاً أمّ البنين رأت امرأة قد شاب رأسها واحدودب ظهرها، تعرفها، لا تعرفها، هي زينب، لا ما هي زينب، راحت تخاطبها:

قابليني بالله قولي يا حبيبة
قابليني أنت زينب لو غريبة
قابليني ما أظن زينب سليبة

قابليني قلبي ما يهدا نحيبه
قابليني ودم تهل عينك سكيبة
 


27


جواب زينب عليها السلام
 

أنا زينب مسلّبة خدري خذوني
أنا زينب من البكا عمين عيوني
أنا زينب خوتي راحوا ماولوني

أنا زينب من الضرب ورمن متوني
أنا زينب دم تهل يُمّا جفوني
 

 

يم البنين نوحي عاولادك نحيبة
يم البنين تذبحوا بسيوف أمية
يم البنين وقالوا زينب خارجية

يم البنين ونصبي لحسين العزية
يم البنين وبنت علي حيدر سبية
 


فاطمة العليلة تشوف تقول: أنت عمتّي زينب؟! لا زينب مخدّرة بني هاشم اللي ما أحد يقدر يدناها

صدت وصاحت يا عيوني
أنا عتبي على أخوتي الضيعوني

شو كلكم يا عمة ما تعرفوني
 


ولكن بعد عند فاطمة العليلة سؤال

تقللها يا عمة كلكم شفتكم
خاف يا عمة جزت عنها وما عرفتها

يا عمة رقية ما شفتها
 

 

تقللها يا عمة عظم الله أجرك
مَدِينَةَ جَدِّنَا لَا تَقْبَليِنَا

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

رقية بالشام ادفنتها
فَبِالحَسَرَاتِ وَالأَحْزَانِ جِينَا

 


28