الليلة الثامنة

قِفْ بِي عَلَى ذَاكَ الضَّرِيحِ الْأَنْوَرِ
وَابْكِ وَخُصَّ أَبَاهُ عَنْهُ مُعَزِّياً
مَوْلًى عَلَى الدُّنْيَا الْعَفَا مِنْ بَعْدِهِ
أَفْدِيهِ مِنْ شِبْلٍ لِأَحْمَدَ قَدْ حَوَى
لَمْ يَثْنِهِ الطَّعْنُ الدَّرَاكُ بِصَدْرِهِ
لِلهِ مِنْ قََمَرٍ أَبَى لِعُلُوِّه
فَانْصَاعَ مُعْتَنِقاً هُنَالِكَ مُهْرَهُ
لَمْ أَنْسَ إِذْ وَلَّى الْجَوَادُ مُبَادِراً
فَاسْتَقْبَلُوهُ وَقَطَّعُوا جُثْمَانَهُ
تَرَكَتْ سُيُوفُ أُمَيَّةٍ جُثْمَانَهُ
تَعْدُو الْجِيَادُ عَلَيْهِ وَهْيَ ضَوَابِحٌ
بِتَفَجُّعٍ لِنَوَى عَلِيِّ الْأَكْبَرِ
بِتَفَجُّعٍ وَتَلَدُّدٍ وَتَحَسُّرِ
قَالَ الْحُسَيْنُ لَهُ بِقَلْبٍ مُسْعَرِ
سِمَةَ النَّبِيِّ لَهُ وَسَطْوَةَ حَيْدَرِ
وَلَكَادَ يَثْنِي الطَّعْنُ صَدْرَ الْأَشْقَرِ
يَهْوِي إِلَى الْغَبْرَا بِوَجْهٍ مُزْهِرِ
وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُهَلِّلٍ وَمُكَبِّرِ
يَنْحُو الْعِدَاةُ بِهِ لِذَاكَ الْعَسْكَرِ
إِرْباً فَإِرْباً بِالسُّيُوفِ البُتَّرِ
مُتَوَزِّعاً بَيْنَ الْقَنَا الْمُتَكَسِّرِ
عُقْراً لِهَاتِيكَ الْجِيَادُ الضُّمَّرِ

75


شعبي:

يگلّه والدمع بالعين دفّاق
يبويه اوداعة الله هذا الفراق
على الدنيا العفا بعدك يلكبر
أظل بعدك يبويه اشلون أگدر
ابعبرة امكسّره وابگلب خفّاگ
يبويه اشبيدنه هذا المگدر
عسن جسمي قبل جسمك توذر
وهاي انته نصب عيني امدد


أبوذيّة:

على الأكبر صحت يحسين ونصار
بعد ما ظل لبوك أعوان ونصار
شباب ابنك وعليه القلب ونصار
وبيه اقطعت يوم الغاضرية

76


عن ابن أبي ليلى أنّه سأل الصادق صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ شيء أحلى ممّا خلق اللَّه عزّ وجلّ؟ فقال: "الولد الشاب", فقال: أيُّ شيء أمرُّ ممّا خلق الله؟ فقال: "فقده", فقال: أشهد أنّكم حُجج اللَّه على خلقه.

وكلّما كان في الابن صفات كماليّة من علم وخُلق وحُسن وجمال كلّما صعب على الأب فراقه, وإذا كان يشبه شخصاً عزيزاً على قلبه فهذا يزيد في ألم الفراق أكثر.

ومن هنا تعلم صعوبة الموقف على قلب الإمام الحسين عليه السلام عندما وقف أمامه ولده عليّ الأكبر يطلب منه الرخصة في القتال, فعليّ الأكبر كان الإبن المبرّز للإمام الحسين عليه السلام, ولم يكن شخصاً عاديّاً, بل يحمل من الصفات والكمالات ما جعلته شبيهاً بأفضل الخلق على الإطلاق نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, فهو أشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, والموقف صعب على الجميع لأنّه وكما قال الحسين عليه السلام في حقّه, كانوا إذا اشتاق أحد لرؤية النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى عليّ الأكبر...مثل هذا الشابّ يقف أمام الحسين يستأذنه في القتال وكان أوّل من تقدّم من أهل بيته بعد أن لم يبق مع الحسين عليه السلام إلّا أولاده وأهل بيته, واجتمعوا يودّع


77


بعضهم بعضاً وعزموا على ملاقاة الحتوف...

أقبل مستأذناً أباه الحسين عليه السلام, فنظر إليه نظر آيس منه, وأرخى عينيه بالدموع, رافعاً شيبته إلى السماء, قائلاً: "اللهمَّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم أشبه الناس خَلقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه, اللهمَّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائقَ قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدَوا علينا يقاتلوننا".

وصاح بعمر بن سعد: "ما لك يا بن سعد, قطع الله رحمك ولا بارك لك في أمرك, وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك, كما قطعت رحمي, ولم تحفظ قرابتي من رسول الله".

ثمّ تلا قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *  ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

وأمّا النساء فلمّا أردن أن يودّعنه دُرْنَ حوله كالحلقة وتعلّقن بأطرافه, وقلن له: ارحم غربتنا, ولا تستعجل إلى القتال, فلا طاقة لنا في فراقك, فلم يعبأ بهنّ...

ثمّ إنّ الحسين عليه السلام, ألبسه لامة حربه, وأفرغ عليه درعه ومغفره, وشدّ وسطه بمحزم كان قد ادّخره من أبيه أمير المؤمنين عليه السلام...


78


فحمل عليّ الأكبر على الأعداء يقاتلهم وهو يرتجز ويقول:

أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِي
وَاللهِ لَا يَحْكُمُ فيِنَا ابْنُ الدَّعِي
أَضْرِبُكُمْ بِالسَّيْفِ أَحْمِي عَنْ أَبِي
 نَحْنُ وَبَيْتِ اللهِ أَوْلَى بِالنَّبِي
أَطْعَنُكُمْ بِالْرُّمْحِ حَتَّى يَنْثَنِي
ضَرْبَ غُلَامٍ هَاشِمِيٍّ عَلَوِي

أخذ يقاتلهم قتال الأبطال، يحمل عليهم حملة بعد حملة, حتَّى قتل منهم مقتلة عظيمة، وضجّ المعسكر من كثرة القتلى, هذا وقد اشتدَّ به العطش من حرارة الشمس, رجع إلى أبيه الحسين عليه السلام, لكن بأيّة حالة؟ قائلاً: يا أبه العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماء من سبيل، أتقوّى بها على الأعداء؟!.
 

يبويه شربة اميّه الكبدي
يبويه انفطر كبدي وحگ جدّي
اتگوى ورد للميدان وحدي
العطش والشمس والميدان والحر


فصاح الإمام عليه السلام: "وا غوثاه، من أين آتي لك بالماء؟ قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله, فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً".


79


يگلّه سهله يبويه طلبتك هاي
امنين اجيبن شربة الماي
لكن يعگلي اوماي عيناي
والعطش مثلك يبّس حشاي

عاد إلى الميدان، وجعل يقاتل أعظم القتال, يكرّ على القوم كرَّة بعد كرّة, حتّى رُمي بسهم وقع في حلقه, وأقبل يتقلّب بدمه, وقال مُرّة بن منقذ العبديّ: عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه به, فضربه بالسيف على مفرق رأسه, ثمّ طعنه بالرمح في ظهره, وضربه الناس بأسيافهم. فاعتنق فرسه, فاحتمله الفرس إلى معسكر الأعداء, فجعلوا يضربونه بأسيافهم.

فهوى إلى الأرض منادياً: يا أبتاه, عليك منّي السلام, هذا جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً, وهو يقول لك: العَجَلَ, العَجَلَ, فإنّ لك كأساً مذخورة حتّى تشربها الساعة.

ثم مدّد رجليه وأسبل يديه وشهق شهقة فارقتْ روحه الدنيا... رحم الله من نادى: وا عليّاه, وا ولداه...

لمّا سمع الحسين عليه السلام نداء ولده جعل يتنفّس الصعداء, وصاح: وا ولداه, فتصارخن النساء, فسكَّتهنّ وقال: إن البكاء أمامكنّ...


80


وحمل على القوم ففرّقهم وأقبل إلى ولده مسرعاً ينادي: ولدي عليّ, ولدي عليّ, حتّى وصل إليه, ورآه بتلك الحالة, ساعد الله قلب الحسين عليه السلام, أخلى رجليه معاً من الركاب, ورمى بنفسه على جسد ولده, وأخذ رأسه فوضعه في حجره, وجعل يمسح الدم والتراب عنه, وانكبّ واضعاً خدّه على خدّه, وهو يقول: "يا بنيّ, قتل الله قوماً قتلوك, وما أشدّ جرأتهم على الله وعلى انتهاك الرسول, على الدنيا بعدك العفا, يا بنيّ, أمّا أنت فقد استرحت من الدنيا وضيمها, وقد صرت إلى رَوْح وريحان, وبقي أبوك وما أسرع لحوقه بك".

گعد عنده وشافه مغمض العين
متواصل ضرب والراس نصين
يبويه گول منهو الضرب راسك
يعگلي من نهب درعك اوطاسك
ابدمه سابح امترّب الخدين
حنه ظهره على بنيّه وتحسّر
ينور العين من خمّد انفاسك
يروحي اشلون اشوفنك امطبّر

81


يبويه من عدل راسك ورجليك
ينور العين كل سيف الوصل ليك
ومن غمض عيونك وسبل ايديك
قطع قلبي ولعند حشاي سدّر

ثمّ التفت الإمام إلى شباب بني هاشم وقال: "احملوا أخاكم عليّاً"، ولكن كيف يحملونه وهو مقطّع إرباً إرباً؟ يقولون: جاؤوا ببساط وجمعوا جثمان عليّ الأكبر عليه وحملوه إلى الفسطاط حيث النساء وحرائر الرسالة ينظرن إليه محمولاً، مخضّباً بالدماء، موزّعاً جثمانه بالطعن والضرب، فدخلنَ الخيمة واستقبلنه بعويل وصراخ: واعليّاه... وامظلوماه...

وأمّا عمّته زينب ساعد الله قلبها:

هوت فوقه تحب خدّه وتشمّه
عسه بعيد البله تگلّه يعمّه
شافه والنبل شابك علي راح
وغدت تصبغ وجهها بفيض دمّه
على التربان نايم ليش بهالحر
هوه فوگه اوصفگ علي راح

82


صاح بصوت يزينب علي راح
لَا طَابَ عَيْشٌ بَعْدَ فَقْدِكَ لَا صَفَا
مِنْهَا ضِيَاؤُكَ يَا شَبِيهَ الْمُصْطَفَى
مَا بَعْدَ يَوْمِكَ مِنْ زَمَانٍ أَرْغَدِ
يخويه اظلمّت الدنيا عليه
أظْلَمَتِ الدُّنْيَا بِعَيْنِي مُذْ خَفَى
فَلْتَذْهَبِ الدُّنْيَا عَلَى الدُّنْيَا الْعَفَا
 

83