الليلة السابعة

أَبَا الفْضَلِ باِسْمِكَ جَلَّ الإِخَاءُ
فَمَوْقِفُكَ الْفَذُّ يَوْمَ الطُّفُوفِ
غَدَاةَ اسْتَفَزَّتْ بِكَ الْحَادِثَاتُ
وَهَزَّ لِوَاكَ أَنِينُ الصِّبَى
فَخُضْتَ الفُرَاتَ وَجَيْشُ الطُّغَاةِ
وَرَاحَتْ تَلُوذُ وَرَاءَ النَّخِيلِ
لِتَقْطَعَ مِنْكَ الْيَمِينَ الَّتي
وَتَبْتَزَّ مِنْكَ الشِّمَالَ الَّتِي
وَيَخْسِفَ بَدْرَ بِنِي هَاشِمٍ
فَتَهْوِي وَتَنْدُبُ أَدْرِكْ أَخَاكَ

وَهَلْهَلَ قِيثَارُهُ المُبْدِعُ
بهِ كُلُّ مَكْرُمَةٍ تَسْجَعُ
فَرُحْتَ لَهَا ظَمِئاً تَطْلَعُ
يُصَعِّدُهُ عَطَشٌ مُوجِعُ
بِهِ غَصَّ شَاطِئُهُ المُمْرَعُ
سُيُوفٌ بِهَا تَرْجُفُ الأَذرُعُ
لَهَا السَّيفُ مِنْ كَفِّهَا أَطْوَعُ
لَهَا كُلُّ ذِي حَاجَةٍ يَبْرَعُ
عَمُودٌ بِمَصْرَعِهِ يَصْدَعُ
فَيَهْرَعُكَ الَّليْثُ إِذْ يَهْرَعُ


63


شعبي:

يخويه العذر شنهو منروح الخيمة اسكينه
أگلها على النهر نايم وصابو بالسهم عينه
خويه ولو إجت زينب ونادتني أخوي حسين
أگلها على النهر نايم وراسه من العمد نصين
يا زينب ذاب قلبي لا تنشدين
حماي خدرك صابه سهم القوم بالعين

تجاوبني يبويه حسين ها عمي البطل وينه
عساني وياك أموت ولا أرد وبقتلك أعلمها
أشوفك وحدك خويه ها كافل خدري وين
عساني وياك أروح ولا أرد وبگتلك أعلمها
ولا تسأليني حامل الراية وگع وين
ومن عقب عينه ضاعت النسوة والايتام

أبوذيّة:

على قلبي مصابك أبد ماهان
أدوّر على الكفوف حداك ماهان

عليك عيوني تدري خلص ماهان
أتاري مقطعات على الوطيّه


64


عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "رحم الله عمّي العبّاس, فلقد آثر وأبلى وفدا أخاه بنفسه، حتّى قطعت يداه, فأبدله الله عزَّ وجلَّ منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب عليه السلام. وإنَّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة".

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة صلب الإيمان, جاهد مع أخيه الحسين عليه السلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً".

لعلّ هذه الساعة التي قتل فيها العبّاس كانت من أشدّ الساعات على قلب الإمام الحسين عليه السلام, وكفى دليلاً على ذلك قوله عند فقده: "الآن انكسر ظهري وقلَّت حيلتي".

يقال إنّ الشيخ محمّد رضا الأزريّ رحمه الله صاحب القصيدة الأزريّة المشهورة, لمّا أنشد قصيدته الهائيّة, وقال هذا المصراع:
يَوْمٌ أَبُو الْفَضْلِ اسْتَجَارَ بِهِ الْهُدَى...

يعني أنّ الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء استجار بأخيه أبي الفضل العبّاس توقّف في ذلك, وتخيّل أنّ هذا المصراع لعلّه لا يكون مقبولاً عند الحسين عليه السلام, ولذا توقّف في مصراعه الآخر ولم يتمّ البيت. ورأى الحسين عليه السلام في منامه وقال


65


له: وَلَنِعْمَ ما قلتَ, ولقد أحسنتَ وأجدتَ, نَعم, لقد استجرتُ بالعبّاس يوم عاشوراء, ثمّ تمَّم له البيت وقال له:  وَالشَّمْسُ مِنْ كَدَرِ الْعَجَاجِ لِثَامُهَا

يعني أنّي استجرت به حين أنّ الأرض والسماء اغبَّرتا من كثرة العجاج والغبار, كأنّ الشمس تلثَّمت وتنقّبت بالعجاج.

إنّه العبّاس الأخ المواسي والوفيّ والمخلص, الذي فداه بنفسه وإخوته, قالوا: لمّا رأى العبّاس كثرة من قُتل من عسكر أخيه الحسين عليه السلام، تقدّم وقال لأخوته: يا بني أمّي تقدّموا لأحتسبكم عند الله، فتقدّم إخوته الثلاثة من أمّه وهم: عبد الله، وجعفر، وعثمان فقاتلوا جميعاً واحداً تلو الآخر حتّى قُتِلُوا.

لمّا قُتل إخوة العبّاس ورآهم صرعى على وجه الصعيد, لم يستطع صبراً, فتقدّم إلى أخيه الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال ويطلب الرخصة منه, فبكى الحسين بكاءً شديداً, ثمّ قال: "يا أخي، أنت صاحب لوائي وإذا مضيت تفرّق عسكري"، فقال العبّاس: لقد ضاق صدري وسئمت الحياة، وأريد أن أطلب بثاري من هؤلاء الأعداء، فقال الحسين عليه السلام: "إذاً فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء"، فذهب العبّاس ووعظهم


66


وحذَّرهم غضب الجبّار وطلب منهم شيئاً من الماء للأطفال, فلم ينفع, فعاد إلى المخيّم وإذا به يسمع صوت الأطفال وهم ينادون العطش العطش. فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي وسيّدي أريد أن أعتدّ بعدّتي, وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء.

فركب فرسه وأخذ سيفه ورمحه, وقصد الفرات, وقاتل حتّى كشف الجيش عنه, ووصل إلى المشرعة, نزل من على ظهر جواده, اقترب من الماء, ثمّ اغترف غرفة بيده وأدناها من فمه ليشرب فتذكّر عطش أخيه الحسين عليه السلام, وعطاشى أهل بيته وأطفاله, لأنّ آثار العطش كانت بادية عليهم جميعاً وخصوصاً على الحسين الذي يبس لسانه من شدّة العطش وتغيّر لونه, فرمى الماء من يده, وقال:

يَا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ هُونِي
هَذَا حُسَيْنٌ وَارِدُ المَنُونِ
تَاللهِ مَا هَذَا فِعَالَ دِينِي

وَبَعْدَهُ لَا كُنْتِ أَنْ تَكُونِي
وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ
وَلَا فِعَالَ صَادِقِ اليَقيِنِ


 

اشلون اشرب وخوي حسين عطشان
وظن قلب العليل التهب نيران

وسكنه والحرم واطفال رضعان
يريت الماي بعده لا حله ومر


67


ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن, وركب جواده, وتوجّه نحو الخيام مسرعاً ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت, فأخذوا عليه الطريق, وتكاثروا عليه من كلّ جانب, فجعل يصول في أوساطهم ويضرب فيهم بسيفه, وهو يرتجز ويقول:

لَا أَرْهَبُ الْمَوْتَ إِذَا الْمَوْتُ زَقَا
نَفْسِي لِسِبْطِ الْمُصْطَفَى الطُّهْرِ وَقَا
وَلَا أَخَافُ الْمَوْتَ يَوْمَ الْمُلْتَقَى

حَتَّى أُوَارَى فِي الْمَصَالِيتِ لَقَى
إِنِي أَنَا الْعَبَّاسُ أَغْدُو بِالسِّقَا
 

ففرَّقهم عن طريقه, وأخذوا يهربون من بين يديه, حتّى إذا قارب المخيم, كمن له لعين وراء نخلة, وضربه بالسيف على يمينه فقطعها, فأخذ السيف بشماله والقربة على كتفه الأيسر, وحمل على القوم كالأسد الغضبان وهو يقول:

وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُمُ يَمِينِي
وَعَنْ إمَامٍ صَادِقِ اليَقيِنِ

إنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي
نَجْلِ النَّبيِّ الطَّاهِرِ الْأَمِينِ


فقاتل حتّى ضعف عن القتال، وقد أعياه نزف الدم، فكمن له لعين آخر وراء نخلة أخرى، فضربه على شماله فقطعها من الزّند فجعل يقول:

يَا نَفْسُ لَا تَخْشَيْ مِنْ الْكُفَّارِ
قَدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهِم يَسارِي

وَأَبْشِرِي بِرَحْمَةِ الجْبَّارِ
فَأَصْلِهِمْ يَا رَبِّ حَرَّ النَّار


68


ولم يكن للعبّاس هَمٌّ إلّا أن يوصل القربة إلى معسكر الحسين عليه السلام، فجعل يسرع ليوصل الماء إلى المخيّم, فلمَّا نظر ابن سعد إلى شدّة اهتمام العبّاس بالقربة, صاح بالقوم: ويلكم, إرشقوا القربة بالنبل, فوالله إن شرب الحسين من هذا الماء أفناكم عن آخركم...

فقطعوا عليه الطريق, وازدحموا عليه, وأتته السهام من كلّ جانب, سهم أصاب القربة فأريق ماؤها, وسهم أصاب صدره, وسهم أصاب عينه, والعين الأخرى جمد عليها الدم, فلم يعد العبّاس يبصر أمامه...وقف العبّاس متحيّراً لا يدَيْن فيقاتل بهما, ولا ماء فيوصله إلى المخيم, وبينما هو واقف وإذا بلعين من القوم يضربه بعمود على رأسه... فانقلب عن ظهر فرسه, وخرّ إلى الأرض صريعاً, وهو يخور بدمه...ونادى برفيع صوته: عليك منّي السلام أبا عبد الله...

أيُّها الموالي... الفارس عندما يقع على الأرض يتلقّى الأرض بيديه, ولكن إذا كانت يداه مقطوعتين, والسهام في صدره, وعيناه لا يرى بهما, فبأيّ حال يقع على الأرض؟!!

ساعد الله قلب الحسين لمّا سمع نداء أبي الفضل, أتاه مسرعاً جعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً إلى أن فرّقهم عن مصرعه,


69


ووصل إلى أخيه ورآه بتلك الحالة, مقطوع اليدين, مفضوخ الهامة, مثخناً بالجراح, والدماء تسيل على رأسه وجسده, سهم نبت في عينه, والعيْن الأخرى جمد عليها الدم, العلم ممزّق, والقربة مخرّقة, والعبّاس يفحص برجليه من شدّة الضربة...

گله يخويه بو الفضل گلي وين الكفوف
دمي على عيني جمد يحسين ما شوف
گله يخويه لغسل بدمعي دمومك
لكن يخويه بهالأرض يومي ويومك

گله يخويه اتقطعن ما بين الصفوف
نشف دمومي يا بقية آل هاشم
تمنيت كان لهالحريم الله يدومك
وتضيع عقبي وعقب عينك هالفواطم

فأدركه الحسين وبه رمق, فأخذ رأسه ووضعه في حجره, وجعل يمسح الدم والتراب عنه, ثمّ بكى بكاءً عالياً, وقال: "الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي".

نَادَى وَقَدْ مَلَأَ الْبَوَادِيَ صَيْحَةً
أَأُخَيَّ مَنْ يَحْمِي بَنَاتِ مُحَمَّدٍ

صُمُّ الصُّخورِ لِهَوْلِهَا تَتَألَّمُ
إِنْ صِرْنَ يَسْتَرْحِمْنَ مَنْ لَا يَرْحَمُ؟!


70


يخويّه يا عباس بيمن أشيل الراس
خويّه انكسر ظهري وتشمتوا بيّه
صاب السهم عينك ريت انعمت عيني
الحين أشعر بغربه والساعة ما لي معين

ما تشمت الناس ما لا عضيد حسين
خويّه انهدم حيلي من يشفق عليّه
خويّه هشموا راسك محّد بقى ليّه
خويّه انهدم بيتي وتشمتوا بحسين

ثمّ انحنى على أخيه أبي الفضل واعتنقه, وجعل يقبّل مواضع السيوف من وجهه ونحره وصدره:

يعباس حس حسين يمّك يبكي وخلط دمعه بدمّك
وسكنه تسلي الطفل باسمك
يگله خويه حسين خليني بمكاني
يگله واعدت سكنه تراني

حاير يبوفاضل بلمّك
ساعة ويجيب الماي عمك
يگله ليش يزهرة زماني
بماي واستحي منها من اسدر


71


يخويه انكسر ظهري وما اگدر اگوم
يخويه استوحدوني عقبك الگوم

صرت مركز يخويه الكل الهموم
ولا واحد عليه بعد ينغار

وبينما الحسين عليه السلام عند أخيه أبي الفضل, ورأس العبّاس في حجره, وإذا بالعبّاس مدّ رجليه، وشهق شهقة، وفاضت روحه...

واعبّاساه... واسيّداه... وامظلوماه...

خويه ليش هالساعة عفتني
إمصابك هدّ حيلي وفتنّي

رحت عنَّي يخويه وضيعتني‏
وجرحك يبو فاضل بالگلب يسعر

فقام الإمام من عنده منحني الظهر باكياً حزيناً منكسراً، يكفكف دموعه بطرف كمّه...

من الذي استقبله؟ يقولون: استقبلته ابنته سكينة ولكن لمّا رأته وحيداً, قالت: أين عمّي العبّاس؟ أراه أبطأ علينا بالماء؟ قال الحسين عليه السلام: "إنّ عمَّك قد قُتل" (بنيّة سكينة، عظّم الله لك الأجر بعمّك العبّاس، فلقد خلّفته على شاطىء الفرات مقطّع اليدين مرضوض الجبين)...


72


فصاحت: واعمّاه واعبّاساه... سمعتها العقيلة زينب فصاحت: وا أخاه وا عبّاساه, وا ضيعتنا من بعدك...

عندك يبو فاضل يخويه اشتكي حالي
واليحدي للناگه زجر عباس يا عيوني
خويه الفواطم بالدرب منهو ليحاميها
وانروح تاليها بيسر عباس يا عيوني

حرمة ولا والي والشمر يبرالي
ترضه يذلّوني وللشام يسبوني
عگبك يا واليها يويلي عليها
ترضى يذلّوني وللشام يسبوني

لكن لزينب عتاب مع أخيها أبي الفضل:

يبوفاضل تدري بالطفل المدلل
يبوفاضل اليتامى كلها تسأل
يبوفاضل تحيرني شلون تقبل

يبوفاضل على الماي اشگد توسل
يبوفاضل عمّه شو عمنا تعطل
يبو فاضل لو أجيك اشلون أندل


73


أجابها بلسان الحال:

لا تجيني زينب يقتلك ونيني
لا تجيني والسهم نابت بعيني

لا تجيني مقطعة يساري ويميني
 


 

عَبَّاسُ يَا حَامِي الظَّعِينَةِ وَالْحَرَمْ
صَرَخَتْ وَنَادَتْ يَوْمَ قَدْ سَقَطَ الْعَلَمْ

بِحِمَاكَ قَدْ نَامَتْ سُكَيْنَةُ فِي الْخِيَمْ
أَلْيَوْمَ نَامَتْ أَعْيُنٌ بِكَ لَمْ تَنَمْ

وَتَسَهَّدَتْ أُخْرَى فَعَزَّ مَنَامُهَا


74