الليلة الرابعة

كَمْ أَوْدَعُوا قَلْبِي عَشِيَّةَ وَدَّعُوا
خَفُّوا فَسَافَحَ عَبْرَتِي وَتَصَبُّرِي
أَبْكِي فَلَا حُرَقِي تُجَفِّفُ أَدْمُعِي
لِلهِ أَقْمَارٌ أَفَلْنَ بِكَرْبَلا
طُفْ بِي عَلَى فَلَكِ الطُّفُوفِ وَقُلْ لَهُ
فِيكَ الإِمَامُ أَبُو الأَئِمَّةِ وَالَّذِي
مُوْلىً بِتُرْبَتِهِ الشِّفَاءُ وَتَحَتَ قُبَّتِهِ
فِيكَ الَّذِي أَشْجَى البَتُولَ وَنَجْلَهَا
مَنْ كانَ فِي حِجْرِ الإِمَامَةِ بِالهُدَى
فَحَياةُ أَصْحَابِ الكِسَاءِ حَيَاتُهُ
مَا أَحْدَثَ الحَدَثَانِ خَطْباً فَاظِعاً
دَمُهُ يُبَاحُ وَرَأْسُهُ فَوَقَ الرِّمَاحِ

حُرَقاً تُؤَجِّجُهَا عُيُونٌ تَدْمَعُ
إِثْرَ الرِّكَابِ مُشَيِّعٌ وَمُشَيَّعُ
كَلَا وَلَا تُطْفِي الحَرِيقَ الأَدْمُعُ
وَلَهَا بِيَثْرِبَ وَالمُحَصَّبِ مَطْلَعُ
مُسْتَعْبِراً: أَعَلِمْتَ مَنْ بِكَ مُودَعُ؟
هُوَ لِلْنُّبُوَّةِ وَالإِمَامَةِ مَجْمَعُ
الدُّعَا مِنْ كُلِّ دَاعٍ يُسْمَعُ
وَلَهُ النَّبِيُّ وَصِنْوُهُ مُتَفَجِّعُ
يَرْبُو وَمِنْ ثَدْيِ النُّبُوَّةِ يِرْضَعُ
وَبِيَوْمِ مَصْرَعِهِ جَمِيعاً صُرِّعُوا
إِلَّا وَخَطْبُ السِّبْطِ مِنْهُ أَفْظَعُ
وَشِلْوُهُ بِشَبَا الصِّفَاحِ مُوَزَّعُ


36


شعبي:

غدوا هذا اعلى حرّ الأرض
وهذا من الطعن ما بقت بيه روح
إذا يعتب عليهم بقلب مالوم
وتخلوني وحيد بين هالقوم
اشلون عيونكم يهل الوفا تنام
قامت تضطرب عالگاع الأجسام
بعد هيهات دهري بيكم يعود
وترد اكفوف أبو فاضل للزنود

اوذاك ايعالج او دم منحره ايفوح
وذاك من الضرب جسمه تخذم
يطيب الكم يفرسان الوغى النوم
وكل منهم لعد قتلي تقدم
وتسمعون الحرم لاجت بالخيام
ورادت تنهض لولا المحتم
ورد اشيل راسي بيكم اردود
وتتلايم النوب اجروح الأكبر


37


أبوذية:

الفزع يهل الوفا اعلي تراكم
أصبر كيف وعيوني تراكم

حين اعلى الثرى نمتوا تراكم
قتل كلكم يفرسان الحمية

في زيارة الناحية المقدّسة المرويّة عن إمامنا الحجّة عجّل الله تعالى فرجه وهو يخاطب أنصار الحسين عليه السلام:
"السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار، وبوأكم الله مبوّء الأبرار, أشهد لقد كُشِف لكم الغطاء، ومُهّد لكم الوطاء، وأُجزِل لكم العطاء، وكنتم عن الحقّ غير بطاء، وأنتم لنا فَرَطٌ، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".


كان الحرّ بن يزيد الرياحيّ شريفاً في قومه ورئيساً في الكوفة، فلمّا رأى القوم قد صمّموا على قتال الحسين عليه السلام وسمع صيحة الإمام ينادي: "أما من مغيث يغيثنا، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله"،
جاء إلى عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟! قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس، وتطيح الأيدي، قال الحرّ: أفما لكم في واحدة من


37


الخصال التي عرض عليكم رضى؟ قال عمر بن سعد: أما والله، لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكنّ أميرك قد أبى ذلك.

فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل يقال له قُرّة بن قَيس. فقال: يا قُرّة، هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا. قال له: أما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهدَ القتال، وكره أن أراه يصنع ذلك. فقلت له: أنا منطلق فأسقيه.

قال: فاعتزلت ذلك المكان، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له رجل من قومه: ما تريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته مثل الرعدة. فقال له صاحبه: يا بن يزيد، والله، إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟! قال الحرّ: إنّي - والله- أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت.

ثمّ ما لبث أن أقبل ملبّياً نادماً منكسراً على بالحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته في تلك الأرض، فجاء إلى الحسين, ولكن بأيّ حالة؟ قالباً ترسه, منكّساً رمحه, مطأطئاً رأسه حياء من


38


آل الرسول وما فعله, وهو يقول: اللهمّ إليك تبت فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك. فلمّا دنا من الحسين عليه السلام نزل عن فرسه، وجعل يقبّل الأرض بين يديه، وقال جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وأنا تائب إلى الله تعالى ممّا صنعت, فترى لي من توبة؟

فقال الحسين عليه السلام: "نعم، يتوب الله عليك، فانزل"، قال: أنا لك فارساً خير منّي راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري، فقال له الحسين عليه السلام: "فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك".

ولمّا أن بدأ القتال، حمل الحرّ على القوم وهو يرتجز:
إنِّي أنَا الحُرُّ ومَأوَى الضَّيفِ                  أضرِبُ فِي أعنَاقِكُم بِالسَّيفِ
عَنْ خَيْرِ مَن حَلَّ بأرْضِ الخَيفِ

فقاتل قتالاً شديداً حتى أكثر فيهم القتلى، فعقروا فرسه، فجعل يقاتلهم راجلاً، فحملت عليه الرجّالة وتكاثروا عليه


39


حتّى قتلوه، فاحتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يديه عليه السلام وبه رمق, فجعل يمسح التراب عن وجهه، ويقول: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، حرّ في الدنيا والآخرة". ورثاه بعض أصحاب الحسين عليه السلام وقيل إنّ الحسين عليه السلام أنشأ يقول:
لَنِعمَ الحُرُّ حُرُّ بَنِي رِيَاحِ         صَبُورٌ عِندَ مُشتَبَكِ الرِّمَاحِ
لَنِعْمَ الحُرُّ إذْ وَاسَى حُسيْنَا       وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

لمّا أمر عمر بن سعد أن تُرضّ الأجساد بحوافر الخيل، وقفت عشيرة بني رياح وأحاطوا بجثمان الحرّ وجرّدوا سيوفهم، وقالوا: لا والله لا يُرضّ جسد رئيسنا بحوافر الخيول، خاف ابن سعد وقوع الفتنة، فقال: ويحكم احملوا جثمان الحرّ خارج الميدان.

العشيرة شالته بحرّ الظهيره      الكلّ منهم عليه شالته الغيره
بس ظلّوا لماعدهم عشيره        ضحايه بالشمس من غير تغسيل

هذا وما حال العقيلة زينب وهي واقفة أمام الخيمة تنظر إلى عشيرة بني رياح يحملون جثمان الحرّ خارج الميدان، وتنظر إلى جهة أخيها الحسين عليه السلام، والحسين عليه السلام قد رضّت


40


الخيل صدره وظهره، وهي تنادي: يا قوم أما فيكم مسلم يدفن هذا السليب...!

خويه انعمت عيني ولا شوفك
واطفالك واهل بيتك
عساها اتعثرت هالخيل

ذبيح ويجري دم نحرك
ضحايا مطرحة بجنبك
ولا داست على صدرك

وهكذا كان الإمام الحسين عليه السلام يودّع أصحابه وأهل بيته واحداً تلو الآخر, إلى أن قُتلوا بأجمعهم ولم يبق منهم أحد, فنظر الإمام الحسين يميناً وشمالاً فلم ير أحداً من أهله وأصحابه وأنصاره فنادى: "يا مسلم بن عقيل، ويا هاني بن عروة، يا حبيب بن مظاهر، يا زهير بن القين"، وسمّى الكثير من أصحابه ثمّ قال: "يا أبطال الصّفا، ويا فرسان الهيجاء، ما لي أناديكم فلا تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون، أنتم نيام، أرجوكم تنتبهون، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصرونه، فهذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهنّ النّحول، فقوموا من نومتكم أيّها الكرام، وادفعوا عن حرم رسول الله الطغاة اللئام...


41


ليش يا خوتي يا جاسم يا حبيب
ليش أنادي وما تجيبون الندا
أدري بيني وبينكم حال الردى

ليش يا خوتي تخلوني غريب
رحتوا عني ودارت عليّه العدا
وبعدكم بيه اشتفت عدوانها

 

لمَاَّ رَأَى السِّبْطُ أَصْحَابَ الوَفَا قُتِلُوا       
وَأَيْنَ مَنْ دُونِيَ الأَرْوَاحَ قَدْ بَذَلُوا؟      
وَخَلَّفُوا فِي سُوَيْدَا القَلْبِ نِيرَانَا

 نَادَى أبَا الفَضْلِ أَيْنَ الفَارِسُ البَطَلُ؟
 بِالأَمْسِ كَانُوا مَعِي وَاليَوْمَ قَدْ رَحَلُوا


42