الليلة الثانية

سِرْ حَثِيثاً يَا رَاكِباً شَدْقَمِيَّة1
فَإِذَا نَارُ طُورٍ لَمَعَتْ فَاخْلَعْ
فَامْشِ هَوْناً وَقَصِّرِ المَشْيَ
فَاغْتَسِلْ بِالفُرَاتِ وَالْبَسْ قَمِيصَ
وَإذا جِئْتَ لِلضَّرِيحِ فَسَلِّمْ
ثُمَّ صِحْ وَادْعُ فَالدُّعَاءُ سَرِيعاً
قُلْ حَبِيبِي حُسَيْنُ يَا مُهْجَةَ الهَادِي
أنَا أَدْعُوكَ يَا حُسَيْنُ وَأَنَّى
أنَا أَدْعُوكَ لا تُجيبُ وَأَنَّى

زُرْ حُسَيْناً فِي كَرْبَلاءَ العَلِيَّه
فَثَمَّ الحَضِيرَةُ القُدْسِيَّه
فَالخُطْوَةُ جَاءَتْ بِحُجَّةٍ نَبَوِيَّه
الحُزْنِ وَانْثُرْ دُمُوعَكَ الدَّمَوِيَّه
ثُمَّ زُرْهُ الزِّيَارَةَ الوَارِثِيَّه
مُسْتَجَابٌ فِي القِبَّةِ الحَائِرِيَّه
وَيَا مُهْجَةَ البَتُولِ الزَكِيَّه
بَعْدَ رَفْعِ الكَرِيمِ بَالسَّمْهَرِيَّه
بَعْدَ رَضِّ العِظَامِ بِالأَعْوَجِيَّه


سيّدي...

تَبْكِيكَ عَيْنِي لا لِأجْلِ مَثُوبَةٍ
تَبْتَلُّ مِنْكُمْ كَرْبَلا بِدَمٍ وَلا

لَكِنَّمَا عَيْنِي لِأَجْلِكَ بَاكِيَه
تَبْتَلُّ مِنِّي بِالدُّمُوعِ الجِارِيَه

17


شعبي:

من شافت عيوني المناره وقبّة حسين
من عادة الزوّار تستأذن الرحمن
وانا من اللهفة إجيتك بلا استئذان
يلي تزو احسين بلغلي رساله
وسِئْله صدق داس الشمر صدره بنعاله
يلي تزور احسين بلغلي تحيّه
وسِئْله صدق رضّت اعظامه الأعوجيّه
يلي تزو احسين خلّي الدمع هدّان

هاجت حزاني وسالت الدمعه من العين
والزهره والكرار والمصطفى العدنان
أهتف ونادي النصرتك لبيك يا حسين
وصّل ضريحه وخل دمعك بانهماله
هبَّر اوداجه وشال راسه فوق عسال
وصّل ضريحه وخلّ عبراتك جريّه
رضّضت صدره وطشَّرت منّهِ الأوصال
وسِئْله صدق خلّوه عاري بغير أكفان

18


وسِئْله عقب عينه اشجره بحالة النسوان
يلي تزو احسين خلّي الدمع جاري
ما ينعرف راسك بأي بلدة يا سردال

يقولون ودّوها سبايا فوق الاجمال
وسِئْله صدق لفّوِ اعظامه في بواري
وراسك رجع للجسد لو ظل في البراري

أبوذيّة:

لولاك الفرض يحسين ما تم
إلك بقلوبنا منصوب ما تم

وحق كبدك المنّه ثلث ما تم
لاجلك يا غريب الغاضرية

وسار ركب الحسين عليه السلام, ومعه النساء والأطفال, إلى أن أتوا أرض كربلاء، وذلك اليوم الثّاني من محرّم, فوقف فرس الحسين عليه السلام من تحته، فنزل عنها وركب أخرى، فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة يميناً وشمالاً ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتّى ركب سبعة أفراس، وهنّ على هذا الحال، فلمّا رأى الإمام صلوات الله عليه ذلك الأمر الغريب قال: "يا قوم ما يقال


19


لهذه الأرض؟" قالوا: أرض الغاضريّة، قال: "فهل لها اسم غير هذا؟" قالوا: تسمى نينوى. قال: "هل لها اسم غير هذا؟" قالوا: تسمّى بشاطىء الفرات. قال: "هل لها اسم غير هذا؟" قالوا: تسمّى كربلاء. فعند ذلك تنفّس الصّعداء وقال: "أرض كرب وبلاء".

ثمّ قال: "قفوا ولا ترحلوا, فهاهنا والله مناخُ ركابنا، وهاهنا والله سفكُ دمائنا، وهاهنا والله هتكُ حريمنا. وهاهنا والله قتلُ رجالنا، وهاهنا والله ذبحُ أطفالنا، وهاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التّربة وعدني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خُلْفَ لقوله"، ثمّ إنه عليه السلام نزله عن فرسه...

بَيْنَما السِّبْطُ بِأَهْلِيهِ مُجِدُّ فِي المَسِير
إِنَّ قُدَّامَ مَطَايَاهُمْ مَنَايَاهُمْ تَسِير
فَعَلا صَهْوَةَ ثَانٍ فَأَبَى أَنْ يَرْحَلا

وَإذَا الهَاتِفُ يَنْعَاهُمْ وَيَدْعُو وَيُشِيرْ
سَاعَةَ إِذْ وَقَفَ المُهْرُ الَّذِي تَحْتَ الحُسَيْن
فَدَعَا فِي قَوْمِهِ يَا قَوْمِ مَا هَذِي الفَلَا

20


قِيل هَذِي كَرْبَلاءٌ قَالَ كَرْبٌ وَبَلَا
هَهُنَا تُنْتَزَعُ الأَرْوَاحُ عَنْ أَجْسَادِها
وَبِهَذِي تُحْمَلُ الأَمْجَادُ فِي أَصْفَادِها
وَبِهَذِي تُيْتَمُ الأَزْوَاجُ مِن أَزْوَاجِها
وَتَهَاوَى أَنْجُمُ الإِشْرَاقِ عَنْ أَبْرَاجِها غَائِباتٍ

خَيِّمُوا إِنَّ بِهَذِي الأَرْضِ مَلْقَى العَسْكَرَيْن
بِظُباً تَعْتَاضُ بِالأَجْسَادِ عَنْ أَغْمَادِها
فِي وثَاقِ الطُّلَقَاءِ الأَدْعِياءِ الوَالِدَيْن
وَبِهَذِي تَشْرَبُ الأَبْطَالُ مِن أَوْدَاجِها
فِي ثَرَى البَوْغَاءِ مَحْجُوبَاتِ بَيْن

وضُربت خيمة الحسين لأهله وبنيه وبناته وضُربت خيم إخوته وبني عمّه حول خيمته...

وفي ليلة العاشر من المحرّم, جلس الحسين في خيمته يصلح سيفه ومعه جَوْن مولى أبي ذرّ الغفاريّ فجعل يصلحه ويقول وهو ينعى نفسه:

يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَلِيلِ
مِنْ صَاحِبٍ وَطَالِبٍ قَتِيلِ

 كَمْ لَكَ بِالإِشْرَاقِ وَالأَصِيلِ
وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بِالبَدِيلِ


21


وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبيلِي
وَإنَّما الأَمْرُ إلى الجَلِيلِ

مَا أَقْرَبَ الوَعْدَ مِنَ الرَّحِيلِ
سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنِ المَثِيلِ

فعن مولانا زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "وأما أنا فسمعته ورددت عبرتي. وأمّا عمّتي فسمعته دون النساء فلزمتها الرّقّة والجزع... ولطمت وجهها وخرجت حاسرة تنادي: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة، يا حسيناه يا سيّداه يا بقيّة أهل بيتاه...، اليوم مات جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّي فاطمة الزهراء وأبي عليّ وأخي الحسن, يا بقيّة الماضين وثمال الباقين".

فقال لها الحسين: "يا أختي, لو ترك القطا لنام". قالت: فإنّما تغتصب نفسك اغتصاباً فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي, وخرّت مغشيّاً عليها فلم يزل يناشدها واحتَمَلَها حتىّ أدخلها الخباء.

لكن سيّدي أبا عبد الله أين كنت عن أختك الحوراء زينب يوم مرّوا بها على جثث القتلى, بين من صافح التراب جبينَه وأسكت الحمام أنينَه, نظرت إلى جسدك فرأته بتلك الحالة, قطيع الرأس, منخمدَ الأنفاس, عاري اللباس, أرادت أن تودّعك


22


فودّعتك وهي على ظهر الناقة: أخي أبا عبد الله لوخيّروني بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك ولو أنّ السِّباع تأكل لحمي, ولكن هذه نياق الرحيل تجاذبنا بالمسير

صاحت يوادي كربلا عنك مشينا
غصبن عليه سافرت يا مهجة احشاي
لو خيّروني يا خليصي بقيت وياك
لكني لو ضليت من يبرى اليتاماك

بليا غسل واكفان خلينه ولينا
يا حسين يلماذاق من قبل الذبح ماي
أگعد لعد جسمك ينور العين وانعاك
ولو طوّح الحادي وحدا بهاي الظعينه

وأخذت تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يا محمّداه صلّى عليك مليك السما, هذا حسينك مرمّلٌ بالدّما مقطّع الأعضاء, وبناتك سبايا, إلى الله المشتكى, وإلى محمّد المصطفى, وإلى عليّ المرتضى, وإلى فاطمة الزهراء, وإلى حمزة سيّد الشهداء, يا محمّداه, هذا حسين بالعرا, تسفي عليه ريح الصبا, قتيل أولاد البغايا, وا حزناه وا كرباه عليك يا أبا عبد الله, اليوم مات جدّي رسول الله يا أصحاب محمّد هؤلاء ذرّيّة


23


المصطفى يساقون سوق السبايا, وفي بعض الروايات: وا محمّداه بناتك سبايا, وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا, وهذا حسين محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والردا. بأبي من أضحى عسكره يوم الاثنين نهبا, بأبي من فسطاطه مقطّع العرى, بأبي من لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى, بأبي من نفسي له الفدا, بأبي المهموم حتّى قضى, بأبي العطشان حتّى مضى, بأبي من شيبته تقطر بالدّما, بأبي من جدّه رسول إله السماء, بأبي من هو سبط نبيّ الهدى, بأبي محمّد المصطفى, بأبي خديجة الكبرى, بأبي عليّ المرتضى, بأبي فاطمة الزهراء, بأبي من ردّت له الشمس حتّى صلّى. فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

بالشمس مطروحين ماحد وصل ليهم
يهلنا حسينكم رضوا اضلوعه
يجدي گوم شوف حسين مذبوح
يجدي ما بقت له من الطعن روح

ولا حد تدنى من الخلق صلى عليهم
وذاق الموت روعه بعد روعه
على الشاطي وعلى التربان مطروح
يجدي قلب خوي حسين فطر


24


يجدي مات ماحّد وقف دونه
يعالج بالشمس منخطف لونه
فَلَوْ أَنَّ أَحْمَدَ قَدْ رَآكَ عَلَى الثَّرَى
أَوْ بِالطُّفُوفِ رَأَتْ ظَمَاكَ سَقَتْكَ

ولا نغّار غمضله عيونه
ولا واحد بحلگه ماي قطر
لَفَرَشْنَ مِنْهُ لِجِسْمِكَ الأَحْشَاءُ
مِنْ مَاءِ المَدَامِعِ أُمُّكَ الزَّهْرَاءُ


25


هوامش

1- شدقم: اسم فحل كان للنعمان بن المنذر، تنسب إليه الشدقميات من الإبل, والشدقم: الواسع الشدق، والميم زائدة.