الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1609 17 شهر رمضان 1445 هـ - الموافق 28 آذار 2024 م

أوصيكُم بتقوى الله

الأيّامُ كلُّها للقدسِخطاب الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مختلف فئات الناساغتنام فرصة التوبةمراقباتسُلوك المؤمِنمراقباتفَلا مَنْجَى مِنْكَ إلاّ إِلَيْكَمراقباتالمعُافَاة في الأَديانِ والأَبدان
من نحن

 
 

 

التصنيفات
المبادئ والمباني الكلاميّة لولاية الفقيه من وجهة نظر الإمام الخمينيّ قدس سره - عبّاس مخلصي
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

 

كثر البحث في العقدين الأخيرين حول القيادة الدينيّة وبالأخص ولاية الفقيه. اتجه البعض للشّكّ والترديد في البناء والمبادئ النظريّة والفكريّة، ورفضوا القراءات والتوضيحات الإسلاميّة التي مهّدت للقبول بهذه النظريّة، في المقابل اتّجه آخرون لقبول النظريّة واعتبروها تتلاءم مع الإدراكات الذهنيّة والتعاليم الدينية.

لعلّ الدافع الأهمّ للغوص في هذا الموضوع، بعض الأفعال وردّات الأفعال الجدليّة التي أخذت شكلاً سياسيّاً ـ اجتماعيّاً، إتسمت بعض الآراء في هذا المجال بتبعيّتها للأجنحة السياسية، وعَمَلُ المجموعات من الناحية الاجتماعيّة أكثر من كونها بحثاً نظريّاً تحقيقيّاً.

أدّى هذا الخلط في المسألة إلى عدم القدرة على الاطّلاع على الآراء الصحيحة والكلام الشفّاف والأصيل. وفي بعض الحالات كان الدفاع عن هذه النظريّة بمثابة "حبُّك للشيء يُعمي ويصم"1. ممّا لا شكّ فيه أنّ بعض الآراء اللّامعقولة التي قُدّمت في هذا الإطار، كانت تنطلق من مبدأ الحقد والغضب والانتقام في المجالات السياسيّة والاداريّة على مستوى المجتمع.

إذا لم تُصَفَّ أجواء البحث والتحقيق من هذا الخلط، وإذا لم يجرِ إرجاع المشاركة في الحوار إلى عقيدة وفكرة معياريّة، لن يتمكّن أيّ مفكّر عالم من خدمة الفكر. لذلك يجب العمل وبوعي لتخليص الحوار من قطّاع طرق الفكر وأعداء ومُحبِّي الجدالات، ليمكن بعد ذلك الوصول إلى أبحاث ودراسات شفّافة ذات قيمة وخلوص عمليّ.

تمكّن الإمام الراحل قدس سره من إحياء نظريّة ولاية الفقيه في الثقافة الدينيّة. ويعود إحياء هذه النظريّة على المستوى الذهنيّ إلى ثلاثة عقود ماضية. قام الإمام قدس سره بتدريس هذا الموضوع في ثلاث عشرة جلسة في النجف2 فكان كتاب ولاية الفقيه خلاصة تلك الدروس. ثمّ طرح الموضوع مرّة ثانية في كتاب البيع3 مع بعض الإضافات والإنقاصات4.

اكتسبتْ هذه النظريّة التجسّم الوحيانيّ العينيّ والعلميّ لأوّل مرّة منذ تاريخ الغيبة والانتظار مع انتصار الثورة الإسلاميّة، فظهرت جليّة في المجتمع وبدأت تجربة الحاكميّة والإدارة الدينيّة على شكل نظام يعتمد ولاية الفقيه. عرض الإمام قدس سره بعض الاصلاحات على هذه النظريّة بعدما دخلت ساحة العمل والاختبار واتضحت بعض زواياها من خلال الدخول إلى مرحلة الاختبار والعمل.

يُعتبر هذا المقال محاولة للاطلالة على إنجازات الإمام الخمينيّ قدس سره حيث سيجري التعرّف على المباني المعرفيّة والدينيّة لنظريّة ولاية الفقيه.

مبادئ الدين المعرفيّة

تتناسب نظريّة ولاية الفقيه مع مجموعة من مبادئ الدين المعرفيّة الخاصّة حيث يؤدّي عدم الاعتقاد وعدم المعرفة الفقهية والعلم بها إلى عدم القدرة للوصول إلى هذه النظريّة في المعرفة الدينية. من هنا اعتبر الإمام قدس سره أنّ معرفة المسائل العقائديّة والفقهيّة الإسلاميّة مصدراً لتصوّر نظريّة ولاية الفقيه والتصديق بها: "إنّ من عرف الإسلام أحكاماً وعقائد يرى بداهتها"5.

يعتقد الإمام قدس سره أنّه إذا أمكن إدراك المبادئ والمسائل العقائديّة وكذلك الهويّة الجمعيّة والاجتماعيّة للعديد من أحكام الدين بالشكل المطلوب، عند ذلك يمكن الوصول إلى نظريّة ولاية الفقيه ولا حاجة عند ذلك للدليل والبرهان.

سنتعرّض هنا لدراسة الجزء الأوّل أي المبادئ والمسائل العقائديّة والكلاميّة وذلك طبق قراءة الإمام الخميني قدس سره التي انتهت إلى النظريّة المشار إليها.
يقول الإمام قدس سره: "إذاً فإنّ كلّ من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلاميّ الحنيف"6.

جرى الحديث هنا عن مسألتي "الخلود" و"الجامعيّة"، ونُسبتا إلى الدين واعتُبرتا مبدئَيْن كلاميَّيْن. هنا سنعمد إلى دراسة القراءة الذهنيّة للإمام الخميني قدس سره التي تربط بين هذين الأصلين والنظريّة المتقدّمة.

1ـ خلود الإسلام

إنّ مسألة خلود الشريعة الإسلاميّة، مقبولة عند كافّة المسلمين. وقد أشارت الآيات الشريفة إلى خلود الإسلام إلّا أنّ بعضها تحدّث عن ذلك بوضوح وتحدّث البعض الآخر بالإشارة.

﴿... وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ7.

اعتبر العلّامة الطباطبائيّ أنّ الآية المذكورة مساوية للآية الآتية في الدلالة على خلود الإسلام8: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ9.
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه، إنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة"10.

ويقول أيضاً: "إنّ هذا الإسلام... لا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع لمدّته، ولا عفاء لشرائعه، ولا جذَّ لفروعه"11.
ويدلّ على عالميّة وخلود الإسلام الدليل العقليّ مثل: "اعتماد الإسلام على الفطرة" و"خاتميّة الإسلام" وذلك إضافة إلى الآيات والروايات12. بناءً على هذا الأصل، فإنّ تعاليم الإسلام، ليست محدودة بزمان خاصّ، بل تعاليمه عالميّة خالدة تصلح لكافّة الأزمنة حيث إنّ الهدف منها هداية البشر نحو الحياة الدينيّة والحياة الإنسانيّة اللّائقة.

من جهة أخرى فإنّ قوانين وتعاليم الإسلام على نوعين: بعض القوانين ذات هويّة فرديّة، إذ يجب على كلّ شخص الإتيان بها من دون أن يكون لذلك أيّ علاقة بالآخر، مثل: الصلاة، الصوم و... إلّا أنّ البعض الآخر ذو هويّة اجتماعيّة ـ حكوميّة. ولا يمكن العمل بتلك القوانين من دون وجود نظام سياسيّ اجتماعيّ ومن دون وجود قوى تنفيذيّة، مثل: القوانين الجزائيّة، الماليّة، الدفاع الوطنيّ و... كما أنّ بعض تعاليم دين الإسلام ذات هويّة اجتماعيّة مثل اقامة العدالة في المجتمع.

لا يعتبر الإمام أنّ خلود الإسلام يرتبط بثبات دين الإسلام ودوام الأبحاث والدراسات العلميّة ذات العلاقة بالدين، بل خلود الدين، يرتبط من وجهة نظره بالأهداف والحاجات والبرامج والقوانين الموجودة في الدين، وذلك في مستويات ثلاثة: الفكر، البيان والعمل والتي يتردّد صداها في كلّ عصر وعند كلّ جيل. ويؤكّد الإمام قدس سره أنّ خلود الدين، هو الحضور والتجسّم العينيّ للدين على امتداد الزمان: "إنّ الإسلام لا يُحدُّ بزمان أو مكان، لأنّه خالد فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيّد به إلى الأبد. وإذا كان حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن تُعطَّل حدوده وتُهمل تعاليمه ويُترك القِصاص أو تتوقّف جباية الضرائب الماليّة أو يُترك الدفاع عن أمّة المسلمين وأراضيهم. واعتقاد أنّ الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود، يخالف ضروريّات العقائد الإسلاميّة"13.

يشير هذا الكلام إلى عدم صحّة الفصل بين ثبات وخلود بعض الأحكام وانتهاء العمل بالبعض الآخر. إنّ كافّة أحكام الدين خالدة وباقية، فالأحكام الفرديّة في الإسلام دائمة ويجب على المؤمنين العمل بها، كذلك الأحكام وبرامج الدين الاجتماعيّة التي هي دائمة وخالدة. يعتبر الإمام أنّ الفهم الصحيح والحقيقيّ لخلود الدين عبارة عن حضور الدين في المجتمع وجعل تعاليمه وتوقّعاته واقعيّة وعمليّة: "فاقتضت الحكمة الإلهيّة أن يعيش الناس بالعدل في الحدود التي حدّها الله لهم. وهذه الحكمة مستمرّة وأبديّة"14.

بناءً على رأي الإمام قدس سره فالله تعالى طَلَبَ منّا أمرَيْن:
1- تأسيس حياتنا الاجتماعيّة على أساس العدل.
2- ربط قوانين وتعاليم الشريعة بالحياة. ويُعتبر هذان الأمران، المحورَيْن والمؤلفَيْن الأوّلَيْن للدين. والشارع لم يرضَ تركهما على الإطلاق.
هنا، يتقدّم السؤال الآتي، هل بإمكان أيّ نوع من أنواع إدارة المجتمع جعل الأمرين المتقدّمين عمليّيْن؟
هل بإمكان أيّ نوع من الحاكميّة متابعة الشؤون الدينيّة والأخلاقيّة والمعنويّة للناس ومن ثمّ التخطيط لمؤسّسات إدارة المجتمع بما يؤدّي إلى إقامة العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والقضائيّة بالإضافة إلى باقي القيم الفرديّة والاجتماعيّة التي أرادها الدين؟ هل هناك من دور يؤدّيه الهيكل الإداريّ على مستوى خدمة الدين والتديّن أو العكس؟ هل يمكن إحياء أهداف وتعاليم الدين في الحكومة العلمانيّة وجعلها خالدة؟ إذا كان ذلك ممكناً على مستوى التعاليم والأهداف الفرديّة، فما هو حال القيم والأهداف ذات العلاقة بالحريم الجمعيْ؟ فهل بالإمكان جعلها خالدة؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ أصحاب الدقّة والبحث، لم يقدّموا جواباً إيجابياً عن هذه الأمور.

"وعلى هذا فوجود وليّ الأمر القائم على النظم والقوانين الإسلاميّة ضروريّ، لأنّه يمنع الظلم والتجاوز والفساد، ويتحمّل الأمانة ويهدي الناس إلى صراط الحقّ ويبطل بدع الملحدين والمعاندين"15.

إنّ هذه العقيدة هي ترجمة لكلام الإمام الرضا عليه السلام الذي وضّح حاجة المؤمنين إلى "وليّ الأمر" و"الحاكم الصالح" بأسلوب عقليّ حيث هناك العديد من الدوافع التي تبيّن ضرورة وجود "وليّ الأمر"، من جملة ذلك:

"... ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً، أميناً، حافظاً، مستودعاً، لدرست الملّة، وذهب الدينِ وغُيِّرت السُّنة والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت حالاتهم، فلو لم يجعل قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, لفسدوا على نحو ما بيَّنا وغيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين"16.

قدّم هذا الحديث أسباباً أخرى تُضاف إلى ضرورة وجود القائد والحكومة الدينيّة، من جملة ذلك أنّه لو لم يكن القائد الأمين الحافظ... موجوداً لتخطى الناس الحقوق والقوانين الدينيّة لأسباب عديدة وتجاوزوا العدالة الاجتماعيّة، يضاف إلى ذلك أنّ عدم وجود القيادة الدينيّة يمنع القيام بالشؤون الاجتماعيّة مثل: الدفاع عن الأمّة الإسلاميّة، إقامة العبادة الجماعيّة كصلاة الجمعة وغيرها.

يعتقد الإمام الراحل أنّ العلل التي ذكرتها الرواية المتقدّمة على ضرورة وجود القيادة والحكومة الدينيّة في المجتمع الإيمانيّ، هي علل دائمة الوجود حيث يحتاج المؤمنون في كلّ عصر وزمان إلى قائد ووليّ كما هو الحال في صدر الإسلام, لأنّ العلل التي وضّحت ضرورة قيادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للمجتمع ما زالت موجودة وباقية، وتظهر هذ الضرورة في أهداف الوحي. لا يمكن القول إنّ المجتمع الإسلاميّ كان في ذاك الزمان بحاجة إلى حاكم إسلاميّ واليوم لا يحتاج لذلك، بل هناك حاجة للقائد ووليّ الأمر في كلّ زمان وفي كلّ مجتمع بناءً على تلك الأهداف والبرامج والقيم الوحيانيّة، فهو الخبير بالدين والمسؤول عن متابعة وإقامة أهداف وبرامج الوحي، وبرامج الدين دائمة غير محدودة بزمان دون آخر.

"فأنتم ترون أنّ الإمام يستدلّ بوجوه عدّة على ضرورة وجود وليّ الأمر الذي يقوم بحكومة الناس. وتلك العلل التي ذكرها موجودة في كلّ زمان، ويترتّب على ذلك ضرورة تشكيل الحكومة الإسلاميّة في كلّ وقت"17.

على هذا الأساس فالقيادة الدينيّة مرتبطة بالتديّن والدين وهي ثابتة دائمة بثبات ودوام وخلود الدين, لأنّ المؤمنين يصبحون ملتزمين بعقائدهم ويصلون إلى البرامج والأهداف الدينية عندما يمهّدون الطريق لتديّن الناس بوساطة سلوكهم الاجتماعيّ وإيجاد حلقة الاتصال بين الحكومة والمجتمع. لا يمكن أن يتحقّق هذا الأمر، إلّا إذا أصبحت الحكومة مسؤولة عمليّاً عن اعتقادات وثقافة الناس الدينيّة, وهذا يعني أنّ شكل النظام الإداري هو الذي يدلّ على الالتزام والتديّن. من هنا نجد أنّ حاجة المجتمع الدينيّ إلى وليّ الأمر والقيادة الدينيّة ممتزجةٌ بحاجته إلى تشكيل الحكومة، وهذا هو الذي يبيّن نظريّة ولاية الفقيه في كلّ عصر.

جواب عن توهّم
يتوهّم البعض ويقول: بما أنّ الحكومة، ظاهرة متحوّلة ومتغيّرة تتأثّر بالثقافة والعلم والتجارب الاجتماعيّة للبشر التي تتجدّد باستمرار، لذلك لا يمكن اعتبارها دينيّة, لأنّ شأن التحوّل والتغيّر لا يتناسب ولا يتلاءم مع ثبات وخلود الدين.

ينشأ هذا التوهّم، إمّا لأنّ أصحابه لم يتمكّنوا من الجمع والمواءمة بين ثبات ودوام تعاليم الدين وتغيّر الاحتياجات البشريّة عبر الزمان وإمّا أنّهم أردوا إيجاد مسوِّغ لخطئهم الآخر, أي "عدم وجود نظريّة الحكومة في الإسلام, وهذا يعني أنّهم قدّموا تفسيراً خاطئاً لمسألة خلود الدين".

إنّ خلود الإسلام كما تقدّم في شرح رأي الإمام قدس سره، أحد مبادئ تشكيل الحكومة في الإسلام, لأنّنا عندما نعتقد بأنّ تعاليم وقوانين وأهداف الإسلام الاجتماعيّة، شأنها شأن الأحكام الفرديّة لناحية الخلود والدوام، وأنّ هذه الأهداف والقوانين لن يكون لها دور في الحياة من دون الحكومة، عند ذلك ندرك بوضوح ضرورة تشكيل الحكومة وهو أصل متفرّع على خلود الشريعة.

إذا كانوا يقصدون من عدم التلاؤم بين الحكومة وخلود الدين، أنّ الإسلام لم يقدّم أسلوباً وطريقة لإدارة المجتمع في المستقبل، وهو لم يأخذ بعين الاعتبار هكذا أمر وأنّ حاجات البشر تتغيّر من زمان إلى آخر لذلك لا يمكن تقديم أسلوب دائم خالد، إذاً وبما أنّ شكل الحكومة لا يمكن أن يكون خالداً فهي لا تتلاءم مع برامج وقوانين وتعاليم الوحي الخالدة.

في الجواب يجب القول إنّ الحكومة في الإسلام لا تعني أنّ الإسلام قدّم أساليب وطرقاً مؤقّتة للحكم وإدارة أوضاع الناس في كافّة الأزمان وأنّ الحاكم الإسلاميّ هو المكلّف بإجرائها، بل الحكومة في الإسلام تعني أنّ الإسلام استفاد من الحكومة كأداة لتكريس أهدافه وبما أنّ أيّ شكل من أشكال الحكومة ليس قادراً على تكريس تلك الأهداف، لذلك أشار إلى الأصول الأساسية والمبادئ والهويّة الدينيّة للحكومة. أمّا ما هي التدابير والأساليب العلميّة والتجريبيّة الناجحة لإدارة المجتمع وكيف يمكن إقامة العدالة الاجتماعيّة، فهو أمر آخر يحتاج إلى الاجتهاد والفهم العلميّ والمتخصّص والعالم. ومن هنا لا يمكن الحديث عن عدم تلاؤم وتناسب بين الحاجات الإداريّة والحكوميّة، وخلود الأصول والهويّة الدينيّة.

2ـ جامعيّة الشريعة
إنّ الاعتقاد بجامعيّة دين الإسلام، أحد مبادئ ولاية الفقيه الأخرى حيث يقوم بدورٍ أساسيّ في وجود هذه النظرية. تشير العديد من الآيات والروايات وكذلك الأدلّة العقليّة والرؤية الخارجيّة إلى جامعيّة الشريعة الإسلاميّة:

- ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ18.
- ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ19.
- ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ20.

وهناك العديد من الروايات في هذا الخصوص نكتفي بذكر إحداها:
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزله الله فيه"21.

اتفق كافّة المسلمين على جامعيّة دين الإسلام، وتعدّدت الآراء حول مفهوم، معنى دوائره شمول هذه الجامعيّة. في البداية يجب التعرّف على المقصود من "الدين" وما المراد من جامعيّته. نشير في هذا البحث إلى رأي الإمام الخمينيّ قدس سره في هاتين المسألتين.

المقصود من الدين
ما هو المقصود من الدين عندما يقال: الدين جامع؟ بعبارة أخرى ما هو متعلّق الجامعيّة؟ اعتبر الإمام قدس سره أنّ متعلّق الجامعيّة أمران: "القرآن المجيد والسنّة الشريفة يحتويان على جميع الأحكام التي تُسْعد البشر وتنحو بهم نحو الكمال"22.

المقصود من عموميّة الدين، الأشياء المعروفة بعنوان الدين, أي "القرآن" و"السنة"، أنّ القرآن الكريم هو مضمون الوحي وهو النصّ الأصليّ والخالص للدين، واعتبرت السنّة من الدين باعتبار أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو المفسّر والموضّح للقرآن، وهو الذي بادر إلى تعليم المسلمين القرآن:
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ23.
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا24.

يستفاد من هذه الآيات أنّ على المسلمين اعتبار ما يسمعون من الرسول أو يشاهدونه في سلوكه، جزءًا من الدين والشريعة والحقائق والمعارف الدينيّة.
يعتقد الشيعة أنّ الأئمّة عليهم السلام هم مفسرو وموضحو القرآن بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ25 والأشخاص المطهرون هم الذين يمكنهم إدراك لطائف وأسرار وحقائق ومعارف القرآن، وفهم هؤلاء كامل بعيد عن الخطأ. وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هم الذين فُتحت لهم أبواب العلم والعرفان26: ﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً27 والأئمّة عليهم السلام هم أصحاب أرفع درجة من التقوى بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ونجد في كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يوضح أنّ الأئمّة هم مفسرو القرآن وهم المساوون له: "كتاب الله وعترتي"28.

بناءً على ما تقدّم فإنّ سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة وكلام الأئمّة عليهم السلام, جزء من الدين باعتبار أنّ هذه السنّة مفسّرة للوحي وهي صاحبة قداسة وحجيّة قطعيّة. إذاً المقصود من الدين، كافّة الحقائق الموجودة في القرآن والسنّة.

معنى الجامعيّة
إنّ الكلام عن جامعية الدين، تابع لمعرفة الهدف من بعثة الأنبياء ونزول الوحي، فما هي الحاجات البشريّة التي لأجلها أنزل الله تعالى الدين؟ هل يجب على البشر توقّع كافّة حاجاتهم من الدين؟ أو أنّ الدين يلبّي بعض الحاجات ولا يجب توقّع كلّ شيء منه؟

يمكن تقسيم الحاجات البشريّة على الأساس الآتي:
1- الحاجات الدنيويّة.
2- الحاجات الأخرويّة.


وتقسم الحاجات الدنيويّة بدورها إلى قسمين:
أ ـ الحاجة إلى قانون وأسلوب لأجل المعنويّات والكمال.
ب ـ الحاجة إلى قانون وأسلوب للحياة.


اتفق الجميع على الحاجة إلى الدين فيما له علاقة بالسعادة الأخرويّة وامتلاك الكمالات المعنويّة. واتفق المفكّرون المتديّنون على أنّ الدين هو أسلوب وطريق السعادة الأخرويّة، أي أنّه الذي يلبّي كافّة احتياجات ذاك العالم. واتفقوا أيضاً على أنّ الدين يلبّي كافّة الاحتياجات المعنويّة والروحيّة للبشر. طبعاً في هذا الجزء يوضح الدين بعض المسائل في تأييد حكم العقل, أي ذاك الجزء من القيم المرتبط بالحسن والقبح العقليّين.

إنّ الحاجة إلى قوانين للحياة، هي جزء آخر من حاجات البشر. أي التعاليم التي يجري بوساطتها صلاح وسلامة الحياة الفرديّة والجمعيّة. يندرج في هذا الجزء، تلك الأمور الحياتيّة التي تقع في إطار أحكام الحلال والحرام أمثال: الأطعمة المحلّلة والمحرّمة والأعمال والمداخيل المحلّلة والمحرّمة و... أي ذاك الجزء من الحياة المتعلّق بالتكاليف الفقهيّة. واتفقت كافّة الآراء حول الحقل الدنيويّ للدين إلى هذه الحدود (أحكام الفقه الفرديّة).

ولكن هل يمكن القول بأنّ الرؤية الاجتماعيّة للحياة البشريّة والتي هي النموذج الأساس لحكومة وحاكمية المجتمع، موجودة في برنامج ورسالة الإسلام؟ وهل يتوقّع من الدين الحديث حول كيفيّته أم لا؟ هنا ظهر التعارض بين الآراء والأفكار ووقعت الاختلافات في جامعيّة الدين. والنتيجة وجود رؤيتَيْن:
الرؤية التي تعتبر أنّ هدف الدين، تحقيق الاحتياجات المعنويّة والسعادة الأخرويّة للبشر والتي تؤكّد أنّ دور الدين في الحياة ليس سوى توضيح الحلال والحرام, أي أنّ الدين يهتمّ بالدنيا بمقدار فائدته في السعادة الأخرويّة ينبغي على المتديّنين أن يكونوا في دنياهم كأصحاب العقول حيث يجب عليهم التفكير في كيفيّة تنظيم الدنيا. يعتقد هؤلاء أنّ رسالة الدين وهدفه الأساس والحقيقيّ، تقديم برنامج يؤدّي إلى السعادة الأخرويّة. ويمكن تفسير جامعيّة الدين في إطار هذا الهدف والرسالة فقط وليس أكثر من ذلك: "الدين كامل بالنسبة إلى هدفه وليس بالنسبة إلى أيّ شيء، الدين جامع بالنسبة إلى ما جاء به وليس بالنسبة إلى أيّ شيء، هذه هي جامعيّة الدين"29.

إنّ الكلام عن ضرورة تفسير جامعيّة الدين في إطار الهدف، هو أمر واضح حيث لم ينهض شخص لتفسير جامعيّة الدين فيما له علاقة بالأمور الخارجة عن هدف الدين، بل العكس صحيح إذ جامعيّة الدين ذات علاقة بالهدف. إنّ القبض والبسط في هدف الدين هو الذي أدى إلى وجود قبض وبسط في تفسير جامعيّة الدين ولاتساع أو ضيق ساحة شموله. إنّ جامعيّة الدين بالمعنى السياسيّ والاجتماعيّ ووجود برنامج لإقامة الحكومة الدينيّة، من جملة الأفكار التي تدّعي أنّ الحكومة والمجتمع أمران مقصودان في الدين وأنّ حاكميّة العدل في مجتمع المتديّنين من جملة أهداف الدين. ويعتقد بأنّ الذي يفصل هذه المسألة عن ثقافة الدين، قد تخلّى عن أحد أهداف الدين. إذاً الخطوة الأولى للوصول إلى توضيح صحيح لجامعيّة الدين، معرفة أهداف الدين. ويمكن التعرّف على هدف أو أهداف الدين عن طريقين:
1 ـ دراسة النصوص الدينيّة.
2 ـ البحث العقليّ.

يمكن الحديث عن مجموعة أهداف الدين وإذا أردنا تجنُّب الإطناب فسنكتفي بذكر الأهداف غير المتّفق حولها. يظهر من خلال التقسيم المتقدّم وجود هدفين لا شكّ فيهما حيث اتفقت حولهما الآراء وهما: توضيح الأمور المعنويّة أمثال: العبادة، التقرّب، كمال الروح و... والآخر تحقيق السعادة الأخرويّة. واتّفق الجميع أيضاً على الأمور الدنيويّة المفيدة على مستوى السعادة الأخرويّة والتي تساهم في الرشد والكمال المعنويّ للبشر وإن اعتبرها البعض أهدافاً من الدرجة الثانية.

بناءً على ما تقدّم فإنّ حدود الاختلاف في تحديد أهداف الدين تعود إلى مسألة الحكومة، فهل الحكومة واحدة من أهداف الدين أم لا؟ تؤكّد هذه الرؤية على أنّ الحكومة ليست شأناً دينيّاً وتبني استدلالاتها على هذا الأساس لأنّ الدين لم يستهدف الأمور ذات العلاقة بالدنيا. إنّ إدارة المجتمع وتأسيس الحكومة، مسألة دنيويّة تعود إلى البشر, لأنّ الدين متعلّق بأمور يعجز الإنسان عن إدراكها وفهمها، لا بل لا يمكن ذلك سوى عن طريق الوحي والهداية الإلهيّة. أمّا تدبير المجتمع فليس خارجاً عن إدراك وعلم البشر. يتمكّن الإنسان من إدارة وسياسة حياة الاجتماعية من دون ارشادات الوحي والدين وهذا يعني أنّ الإنسان ليس بحاجة إلى إرشاد من الخارج، إذ بإمكانه تنظيم هذه الأمور بمساعدة العقل والتجربة، وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقّع من الدين إيجاد القانون، وإذا تحدّثت بعض النصوص الدينيّة عن ذلك، فذلك ليس على أساس أنّه قانون دينيّ، بل باعتبار ذلك مقولة تابعة وليست مستقلّة.

تعتبر هذه الرؤية أنّ تأسيس الحكومة في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, أمر بشريّ حصل بالصدفة حيث إنّ حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا علاقة لها بشريعته.
يُعتبر عليّ عبد الرزّاق من أوائل الذين نظروا إلى فكرة خروج الحكومة عن دائرة الدين. يعتقد عليّ عبد الرزّاق أنّ القرآن الكريم الذي هو أكثر النصوص الدينيّة اعتباراً، لم يتعرّض لموضوع السياسة والحكومة حتّى بالإشارة، لا بل لا يوجد في القرآن أي دليل يبين وجوب إقامة الحكومة وتولّي مسؤوليّة إدارة المجتمع.

عندما نقول بأنّ النصوص الدينية لم تتحدّث عن السياسة والحكومة وقد أوكل الأمر إلى البشر بما يمتلكون من عقول، فهذا ليس توهُّماً: لأنّ العديد من برامج وأهداف ومطلوبات الدين الاجتماعيّة، أمثال: إقامة العدل، نشر الأمور الحسنة في المجتمع، الحؤول دون الأخطاء والفساد، استخدام الأحكام القضائيّة والماليّة وتحرّر الإنسان من كلّ قيد داخليّ وخارجيّ (الطواغيت) و... كلّ ذلك يحمل رسالة سياسيّة اجتماعيّة توضح في أدنى الحالات القيم والأصول التي أرادها الإسلام في باب الحكومة والإدارة.

تعتبر "الإمامة" في الثقافة الشيعيّة تجسيداً لفلسفة الإسلام السياسيّة. والإمامة في هذه الثقافة، نموذج للقيادة والحاكميّة المستخرجة من النصّ الدينيّ. كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه إماماً وحاكماً يمارس إدارة وسياسة المجتمع على أساس الوحي. وتابع الأئمّة عليهم السلام المسؤوليّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا ما سنتحدّث عنه في الأقسام اللّاحقة.

الادّعاء الآخر في هذه الرؤية أنّ تنظيم وإدارة المجتمع الإنسانيّ، قد وضع على عاتق العقل والتجربة البشريّة فالدين لم يتحدّث حول الحكومة والسياسة في المجتمع, لأنّ الدين تكفّل توضيح الأمور الأعلى من مستوى العقل والعلم البشريّ، والحكومة ليست أمراً خارجاً عن فهم وإدراك البشر. إنّ هذا الكلام غير مقبول, لأنّ علم البشر محكوم لكافّة المحدوديّات ذات العلاقة بإدراك الإنسان لنفسه وللعالم. إنّ إدراك ومعرفة الإنسان بنفسه والعالم، أمر ناقص غير كامل. ليس بإمكان الإنسان إدراك ما يفيده وما يضرُّه بشكل كامل وتامّ، فكيف سيتمكّن من اختيار مسير حياته الاجتماعيّة وإدارة المجتمع البشريّ بشكل صحيح؟

صحيح أنّ البشر تمكَّنوا من التعرّف على العديد من العلل والقضايا الاجتماعيّة, إلّا أنّ ذلك غير كافٍ لبناء الحياة الجمعيّة والأهداف والقيم الثابتة والخالدة في المجتمع على أساسها. لا بل لن يكون بمقدرة العلم والمعرفة الوصول إلى ذلك, لأنّ تقديم طريق وهدف للحياة الجمعيّة، بحاجة إلى معرفة كاملة حول الاستعدادات والقدرات الذاتية للإنسان وامتلاك رؤية عميقة وواسعة بعالم الوجود. إنّ هذا النوع من المعرفة خارج عن إطار العلوم الجزئيّة حتّى إنّه خارج عن قدرة العقل البشريّ, لذلك نجد المعارف والنظريّات الاجتماعيّة، تؤدّي بالإنسان في كلّ يوم من الأيّام إلى اختيار طريق وأسلوب ويؤيّد ذلك أفول مذاهب وسقوط أنظمة حيث يشير الأمر إلى أنّ البشر عاجزون عن اكتشاف الطريق الصحيح والخالد في حياتهم، هنا يجب أن يتدخّل الدين لملء الفراغ. إذا أراد البشر الحركة في حياتهم الاجتماعيّة في إطار طريق لا يؤدّي إلى الانحراف والعبث، فهل هناك غير الدين لتوضيح ذلك. وهذا يعني بناء حركة وإدارة المجتمع على أساس الأهداف والقيم التي أشار إليها الدين والوحي، وأمّا الأساليب العلميّة المكتشفة فهي للمساعدة في إيجاد ذلك.

الرؤية الثانية وهي التي تعتبر أنّ هدف الدين أعلى من الأمور المعنويّة والأخرويّة حيث تقابل هذه الرؤية الأولى بشكل كامل. وتؤكّد هذه الرؤية على مسألة الحياة الدنيا وبناء المجتمع على أساس العدل والقسط وتعتبر ذلك من جملة أهداف الدين وتشدّد على الإطار الاجتماعيّ للدين.

وصل هذا الأمر إلى الأوج بعد دخول الإمام الخمينيّ ساحة التحليل والتفسير والتوضيح حيث قدّم مسألة "ولاية الفقيه" و"الحكومة الإسلاميّة" فبيّن مكانة ذلك في إطار المعرفة الدينيّة. يعتبر الإمام الخميني قدس سره أنّ وحي الإسلام ليس أمراً عباديّاً فقط يتعاطى توضيح طريق العبوديّة ويبيّن الثواب والعقاب الأخرويَّيْن. إنّ جامعيّة الإسلام من وجهة نظر الإمام قدس سره تعني اهتمام الدين بكافّة الزوايا الوجوديّة وجميع الحاجات الماديّة والمعنويّة للبشر, أي أنّه يوضح كلّ ما يحتاج إليه الإنسان للوصول إلى السعادة الدنيويّة والأخرويّة: "إنّ الإسلام منهجٌ ومسلكٌ لهذا الإنسان الذي له مراتب من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة ومن ما وراء الطبيعة إلى الألوهيّة. إنّ الإسلام يريد أن يربّي إنساناً جامعاً أي يربّيه بالصورة التي هو عليها: له بُعد طبيعيّ فينمّي فيه البعد الطبيعيّ. وله بُعد برزخيّ فينمّي فيه البعد البرزخيّ. وله بعد روحيّ فينمّي فيه البعد الروحيّ. وله بعد عقليّ فينمّي فيه البعد العقليّ. وله بُعد إلهيّ فينمّي فيه البعد الإلهيّ. إنّ جميع الأبعاد التي يمتلكها الإنسان هي بصورة ناقصة ولم تصل إلى درجة الكمال. وقد جاءت الأديان لانضاج هذه الثمرة غير الناضجة، وإكمال هذه الثمرة الناقصة"30.

النسبة بين الدين والدنيا
إنّ دين الإسلام من وجهة نظر الإمام الخمينيّ قدس سره على علاقة بحياة الإنسان في الدني, لأنّ التديّن والعبادة في هذه الشريعة لا يتعلّقان بمكان وزمان خاصَّيْن وكذلك الإتيان بمراسم عباديّة خاصّة، بل كلّ لحظة من حياة الإنسان، عبادة وكلّ نقاط الأرض مسجد ومقدّس. يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً"31.

إنّ ارتباط الدين والدنيا في هذه الرؤية، ارتباط كامل ومتساوٍ. لا تنفصل الأرض والسماء والماديّات والمعنويّات عن بعضها البعض، بل تلبس الأرض لباس السماء وتتّصل المادّة بالمعنى والدنيا بالآخرة والدين بالحياة. إنّ الحكومة والإصلاح ونظم أمور الحياة، هي أمور متعالية طاهرة لا يَقلّ ثوابها عن ثواب العبادات الأخرى. إنّ طريق الصلاح والعبادة يَعبر عبر مسيرة الحياة اليومية، ومن ساحة السياسة والعمل لأجل الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة للبشر والترويج للمعنويّات والعدالة: "إنّ الله تعالى عَدّل الماديّات فصنع منها الإلهيّات، ونظر إلى الماديّات بعين الإلهيّات وإلى الإلهيات بعين الماديّات"32.

لقد نزّهت الرؤية الأولى الدين عن الاهتمام بأمور الدنيا والوصول إلى السعادة الدنيويّة المتعالية, وذلك لأنّها حصرت الهدف من الدين بالتعالي الأخلاقيّ والوصول إلى السعادة الأخرويّة. النقطة المهمّة والأساسيّة في هذه الرؤية هي: هل أنّ أيّ شكل من الحياة يمكن أن يدركه فهم الإنسان ويطلبه الطبع البشريّ، يتلاءم مع التعالي الأخلاقيّ والتوجّه الأخرويّ؟ فالأنانيّة على سبيل المثال والاحتياجات الطبيعيّة البشريّة تظهر على شكل اجتماعيّ وفي الظلم والاستبداد الفرديّ أو الحزبيّ. ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا النوع من الحياة يحرم الإنسان الكثير من فوائد الحياة المعنويّة والقيم الأخلاقيّة. بناءً على ما تقدّم فإذا كان إصلاح الحياة الدنيويّة ونظم المجتمع، خارجَيْن عن هدف الدين، فإنّ الدين لن يكون ناجحاً في السعادة المعنويّة والأخلاقيّة. لذلك كانت دعوة الأنبياء المعنويّة مترافقة مع الإصلاح والتعديل في مختلف المجالات الاجتماعيّة.

الهدف الأساس للدين

يعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره، أنّ الهدف الأساس للأنبياء، هداية الناس, وبما أنّ تحقّق هذا الهدف غير ممكن من دون التدخل في الأمور الدنيويّة والحياتيّة للناس، لذلك كانت الحكومة وإقامة العدل من وظائف وأهداف الرسالة، إلّا أنّها وظيفة آليّة وممهّدة. وبما أنّ إصلاح الدنيا شرط لازم لإصلاح الآخرة، كان إصلاح الدنيا ضمن إطار عمل الأنبياء وهدفاً ممهّداً للبعثة.

"في هذا الكتاب الشريف (القرآن) العديد من المسائل وأهمّها المسائل المعنويّة ثم إنّ رسول الله وسائر الأنبياء لم يأتوا لتأسيس الحكومة في هذا المكان، لم يكن هذا هو مقصدهم الأعلى, لم يأتوا لإيجاد العدالة هنا، وهي ليست المقصد الأعلى أيضاً، كلّ ذلك مقدّمة... مقدّمة لأمر وهو التعريف بالذات الإلهيّة المقدّسة"
33.

"عندما نقرأ مفاد الآيات الشريفة وعندما نراقب سيرة الأنبياء، نرى أنّهم كانوا يسعون لإيجاد العدالة في الدنيا ولكن ليس بمعنى أنّها المقصد الأعلى بل باعتبارها مقدّمة. أراد الرسول إيجاد العدالة، لطرح تلك المسائل التي أرادها، المسائل التي تصنع الإنسان"
34.

الظاهر أنّ رأي الإمام قدس سره يتّفق مع الرؤية الأولى عندما اعتبر أنّ الهدف الأساسيّ للدين التعليم والتربية المعنويّة. (قلنا الظاهر لأنّ فهم الإمام قدس سره لأمور الدين المعنويّة يختلف عن فهمهم) إنّ الفصل بين الفهمين يعود في الظاهر والباطن إلى الفكر العلمانيّ الذي يفصل بين الدين وحياة الناس الدنيويّة، أمّا بناءً على رؤية الإمام الخمينيّ قدس سره فالعلاقة بين الدين والدنيا قائمة، بل أحدهما أصل والآخر فرع، والفرع في خدمة الأصل عادة. هنا تصبح الحياة الماديّة في خدمة الحياة المعنويّة والدنيا خادمة للآخرة.

من جهة أخرى، لو لم يتدخّل الدين في الحياة البشريّة الدنيويّة، ولم يعمل على سدّ الفراغ المعرفيّ حول هذه الحياة ولم يعلم الناس بحالات التفاهم بين الحياة الماديّة والمعنويّة، عند ذلك سيغرق البشر في الماديّات ويبتعدون عن المعنويّات.

إذاً يقوم الدين بدور محوريّ عن طريق تربية وتعليم الأشخاص الصالحين والمصلحين في حياة البشر وعن طريق توضيح الأهداف والقيم والأحكام التي يحتاجها المؤمنون في حياتهم الجمعيّة لتكون دنيا البشر دينيّة سواء من الداخل أو الخارج. إنّ الإيمان من الداخل، والعمل بناءً على تعاليم وضوابط الدين من الخارج، عاملان أساسيان لجعل دنيا البشر دينيّة ولوصول البشر إلى السعادة الدنيويّة والأخرويّة. ويطلق على اجتماع ونظم هؤلاء البشر في لغة الوحي، "الأمّة".

الحكومة والديانة

كيف يمكن الإذعان بأنّ الإسلام لم يهتمّ بالحاكميّة والقدرة السياسيّة للمجتمع، مع العلم أنّ النصوص الدينيّة تتحدّث عن دور أساسيّ للحكومة في إيجاد الاعتقادات والسلوكيّات والروحيّات المتنوّعة؟

تتحدّث تعاليم القرآن والسنّة عن أنّ فعاليّة ودور المجتمع والحكومة يعتمدان إمّا على أساس تديّن أو كفر الناس وكذلك الحال فيما له علاقة بالعائلة.
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم"35 يتحدّث القرآن الكريم حول الذين لم يتمكّنوا من الحفاظ على دينهم بسبب حكومة ما تخالف الدين ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا36.

ويتحدّث القرآن الكريم أيضاً عن الذين خرجوا عن الدين بسبب السلطة الحاكمة: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا37.

ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي وإذا فسدا فسدت أمّتي، قيل: يا رسول الله ومن هم؟ قال الفقهاء والأمراء"38.

إنّ الدين الذي يبيّن لنا هذا النوع من التأثير للحاكميّة والسلطة الاجتماعيّة والذي يتحدّث عن العلاقة المباشرة بين الحكومة والتديّن، كيف يمكن بعد ذلك الادّعاء والقول: إنّه لم يتحدّث عن هذا الأمر المؤثّر ولم يطرح أيّ مسألة حوله؟!.

إنّ الحديث وامتلاك تصور، لا يعني أنّ الدين قدّم كافّة الأساليب الجزئيّة والعمليّة ورسم كافّة الأطر والبرامج التطبيقيّة والنظاميّة لإدارة المجتمع, لأنّ هكذا أمور تقع على عاتق العقل والتجربة. إنّ هذه الأمور، هي أمور عقلانيّة وعمليّة تتعلّق بالنظام العقليّ وبتجربة العقلاء في العالم وليست أموراً دينيّة.

إنّ حديث الدين حول الحكومة في حدود الإشارة إلى الأصول والأهداف والقيم التي تترك تأثيراً عامّاً على مستوى إظهار الدين في العمل. في الحقيقة للدين كلام واحد في باب الحكومة وهو إجراء العدالة: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ39. وبما أنّ قوانين الإسلام الإلهيّة، قوانين عادلة, لأنّها نزلت من عند الله العادل والله تعالى لم يضع قانوناً إلّا على أساس العدل ولأنّ تطبيق القوانين الإلهيّة العادلة يجب أن ينتهي إلى إقامة العدل والعدالة في المجتمع، كانت الحكومة في الإسلام هي المجرية للقوانين الإلهيّة العادلة, وهذا يعني أنّ تنظيم حياة الناس يجب أن يجري على أساس محوريّة العدل. لذلك تحدّث الإمام الخمينيّ عن شرطين أساسيَّيْن للحاكم الإسلاميّ العادل والعارف بالقانون: "والشروط التي ينبغي توفُّرها في الحاكم نابعة من طبيعة الحكومة الإسلاميّة. فإنّه بصرف النظر عن الشروط العامّة كالعقل والبلوغ وحسن التدبير، هناك شرطان مهمّان وهما:
العلم بالقانون الإسلامي.
العدالة40.

إنّ الميل نحو القانون وطلب العدالة، كالطريق والهدف في الحكومة الإسلاميّة، يفترضان وجود خاصِّيَّتيْن: معرفة الحاكم بالقانون وعدالته, أي أن يكون هذا الشخص صاحب رؤية دينية وتعادل داخلي.

إنّ قوانين الإسلام يمكن فهمها وكشفها من خلال الفقاهة والتفقّه في الدين والتي يمكن تفسيرها وتوضيحها في إطار التحوّلات الثقافيّة والمعرفيّة والآليّة فتتبدّل الأحكام والاحتياجات القانونيّة. لذلك يقول الإمام الراحل قدس سره: "الفقه هو النظريّة الواقعيّة والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللّحد"41.

إنّ هذا الكلام هو عبارة أخرى عن جامعيّة الدين، حيث يؤكّد الإمام قدس سره أنّ الحكومة هي الإدارة التطبيقيّة للقوانين والنظريّات الاجتماعيّة ـ الإنسانيّة في الإسلام. ومن هنا يتّضح أنّ مقصود الإمام من الفقه، ليس القوانين الفقهية الموجودة في الكتب، بل المقصود هو الفهم الفقاهتي والعقليّ ووجود جهاز الاجتهاد والاستنباط في هيكل المعرفة الدينيّة. ويمكن من خلال هذا الجهاز الحصول على القوانين الدينية المتغيّرة وغير المتغيّرة وذلك بهدف التعادل في الحياة والمجتمع فالحكومة أداة لخدمة أهداف الدين الإنسانيّة.

الحكومة طبق هذه الرؤية ليست ضرورة مؤقتة تخدم متطلّبات عصر أو جيل معيّن، بل هي خيار ناشيء من صميم الدين. وإذا أراد البشر بناء حياة تسودها العدالة والقيم التكامليّة للإنسان، ينبغي أن تكون مبادئ حكومتهم نابعة من مصدر يمتلك تفسيراً صحيحاً وكاملاً للحياة ويمكن الوصول إلى ذلك في خلود وجامعيّة الإسلام.

الإمامة والقيادة، السمة الدينيّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

إنّ التصديق والإيمان بالشأن والسمة الحكومتية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إحدى الفرضيّات القبليّة في مسألة فهم وقبول نظريّة ولاية الفقيه. كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبناءً على رسالته، مكلّفاً بتأسيس الحكومة في المجتمع وقيادة المؤمنين.

إنّ النبوّة والرسالة، تعني إبلاغ الوحي وإرشاد الناس. والرسول هو المرشد والدليل أي الشخص الذي يوضح الطريق، لكنّ البشر يحتاجون إلى القائد بالإضافة إلى حاجتهم للمرشد. البشر بحاجة للاستعانة بشخص أو مجموعة وجهاز ينظّم حياتهم الاجتماعيّة، ويعمل على تعالي البشر بالاستفادة من استعداداتهم بشكل صحيح. ويطلق على هذا النوع من القيادة التي تتولّى مسؤوليّة الرشد في الأبعاد الإنسانية والإلهيّة للبشر، الإمامة. وكان الأنبياء العظام يمتلكون الجهتين معاً، فكانوا أنبياء وأئمّة. وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مبلّغاً للوحي بين المسلمين ومتولّياً لزعامة وقيادة المجتمع المتديّن من قبل الله تعالى.

اتفق المسلمون كافّة على الشأن والسمة القياديّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ هذه السمة إلهيّة, فالله تعالى هو الذي جعله إماماً وقائداً42.
بدأ البعض الحديث منذ سقوط الخلافة العثمانيّة وبالأخصّ منذ أواسط القرن الأخير، وبسبب نفوذ الفكر العلمانيّ إلى المجتمعات الإسلاميّة، وأشاروا إلى أنّ حكومة وقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة الإسلاميّة، لا علاقة لها بالرسالة والدعوة النبويّة. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس إلى الحكومة باعتبار جهته البشريّة وباعتبار أنّه شخص بارز، وليس باعتباره رسولاً يؤدّي وظيفته الدينيّة. لم تكن الحكومة منصباً إلهيّاً، بل هو منصب أوكله المسلمون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . لذلك لا يمكن اعتبار حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة أمراً دينيّاً ولم تُلقِ أي مسؤوليّة على عاتق المتديّنين.

يعود أساس هذا الكلام إلى نظريّة الفصل بين الدين والسياسة وهي نظريّة كان الهدف منها إكمال تسويغ العلمانيّة الدينيّة. وقد استدلّ أصحاب هذه النظريّة بمجموعة من آيات القرآن الكريم أمثال:
- ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ43.
- ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ44.

- ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ45.

ادعت هذه المجموعة بالاعتماد على هذه الآيات أنّ مسؤوليّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت تبليغ الرسالة من قبل الله تعالى، ولم يكن له أيّ مسؤوليّة تنفيذيّة في المجتمع46.
لا يخفى على صاحب الفكر وجود آيات أخرى في القرآن الكريم تبيّن رسالة ووظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدينيّة على مستوى تشكيل الأمّة وتنظيم أمور المجتمع على أساس تعاليم الوحي. أمّا الآيات الشريفة التي تحتوي على تعاليم عمليّة وتنفيذيّة حيث لا يكون أمر الوحي والشريعة ثابتاً ذا معنى مع عدم إجرائها، فهي: الجهاد47، الدفاع48، الصلح49، الجزية50، الزكاة51، القصاص52، الديات53، الحدود54، قبول حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثناء الخلافات55 يضاف إلى ذلك الآيات التي تحضّ المسلمين على اتباع أوامر الله والرسول في ساحة الحياة56 و... ألا يمكن من خلال هذه الآيات، فهم رسالة ووظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التطبيقيّة والتنفيذيّة إلى جانب رسالته التبليغيّة؟ عندما يوضح وحي القرآن، المسائل المعنويّة والأحكام العباديّة بالإضافة إلى الأهداف والأحكام الاقتصاديّة والحقوقيّة والجزائيّة والعسكريّة، ألا يدلّ ذلك على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الموضح لتلك البرامج والمكلّف بتطبيقها؟

إنّ منصب الحكومة والقيادة في عقيدة الإمام قدس سره، منصب وشأن إلهيّ ودينيّ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وكما أُعطي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منصب النبوّة من قبل الله تعالى، كان له أيضاً منصب الإمامة وحكومته ظاهرة تنبع من الوحي والدين. "لذا فالله عزَّ وجلَّ قد جعل في الأرض إلى جانب مجموعة القوانين، حكومة وجهاز تنفيذ وإدارة. الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يترأّس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلاميّ. وإضافة إلى مهامّ التبليغ والبيان وتفصيل الأحكام والأنظمة، كان قد اهتمّ بتنفيذها حتّى أخرج دولة الإسلام إلى حيّز الوجود"57.

بناءً على ما تقدّم من كلام الإمام، يمكن الاستدلال على عقيدته بالأسلوب الآتي:
وجوب اتّباع المؤمنين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام قدس سره
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ58 أمّا النتيجة التي وصل إليها الإمام قدس سره من الآية المتقدّمة فهي: تطلب الآية الشريفة من المؤمنين اتّباع الله ورسوله. اتباع الله تعالى، يعني العمل بتعاليم الشريعة والوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . إذاً العبادة والأحكام المذكورة في الوحي، اتباع لله تعالى. أمّا اتباع الرسول فعلى نحو آخر. لا يمكن أن يطلق على العمل بأحكام الله، اتّباعاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم, هو اتباع لله تعالى.

إنّ اتّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعني أن يقوم المؤمنون باتّباع الأوامر والتعاليم الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام قدس سره باعتباره قائداً ومتولّياً لزمام أمور المجتمع الإسلاميّ. يأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل المثال كافّة المسلمين الالتحاق بجيش أسامة. هنا يجب على المؤمنين اتباع أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحق لهم التخلّف, لأنّ الله تعالى هو الذي فوّض إليه الحكومة والقيادة. ثمّ إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بدأ إعداد الجيش وتعبئة الجند بناءً على المصالح وتشخيصها.

والمؤمنون مكلّفون بالإضافة إلى العمل بتعليمات الوحي، الانقياد في هذه الأمور للرسول والإمام59. وعلى هذا الأساس، يعلم من هذه الآية المنصب والشأن الحكومتي وكذلك قيادة الرسول والإمام.

البناء الطبيعيّ للدين

الإسلام من وجهة نظر الإمام، ليس دين العبادة والموعظة، ليقال عند ذلك إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له من وظيفة سوى بيان الأحكام والوعظ، لا بل فالمجال الاجتماعيّ والإطار الإجرائي والعمليّ، جزء أصيل وأساسيّ من هذا الدين. قدّم الإسلام، برنامجاً لحياة الإنسان اليوميّة ولسلوكيّاته الفرديّة والاجتماعيّة ودعا المسلمين إلى: العدل والقسط60، الزواج61 والطلاق62، الثروة63 والفقر64، الغِذاء واللباس65، العلاقة بين البشر66 وحقوق الأفراد67 و... ليصار إلى تشكيل الأمّة والمجتمع الإسلامي68 حيث طلب منهم أحكام اجتماعهم69 والحؤول دون تفرّقهم70 ثم إنّه أمر بملاحقة الذين يلحقون الضرر بنظم ونظام المجتمع71 والخلاصة أنّ: "ماهيّة قوانين الإسلام دليل آخر على ضرورة تشكيل الحكومة، فهي تدلّنا على أنّها جاءت لتكوين دولة، تكون فيها إدارة ويكون فيها اقتصاد سليم وثقافة عالية"72.

إنّ الدين الذي يمتلك هذه الهويّة وهذا البناء الاجتماعيّ والتنفيذيّ، كيف يمكن أن لا يكون مُوجده مكلّفاً بتشكيل الحكومة والتنفيذ؟!

ويعتقد الإمام قدس سره أنّ الجزء الإجرائيّ في الدين حسّاس ومهمّ إلى درجة أنّه يقوم بدور على مستوى حياة الدين إذا كان تعيين الخليفة مكمّلاً ومتمّماً للرسالة:
"وهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يفعل فما بلّغ ﴿رِسَالَتَهُ73 وكان تعيين خليفة من بعده، ينفّذ القوانين ويحميها ويعدل بين الناس عاملاً متمّماً ومكمّلاً لرسالته"74.

إذاً تقتضي ماهية الإسلام وهيكل قوانينه، أن يتولّى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحكومة والإمامة، ليمكن بوساطة ذلك تطبيق طلبات وتعاليم الوحي.


تعيين الخليفة

ما هو الأمر الديني الذي اعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه ضرورة تعيين الخليفة؟ لو كان شأن ووظيفة الرسول إبلاغ الوحي فقط، فما هو وجه الحاجة للخليفة؟ ألم ينتهِ الوحي برحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

من جهة أخرى لم يكن أحد من أئمّة الشيعة وخلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ، ولا أيّ من خلفاء أهل السنة، خليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تلقّي وإبلاغ الوحي. إذاً لماذا اختار الرسول خليفة (حسب العقيدة الشيعيّة)؟ وما هي الأمور التي ادعى الخلفاء أنّهم خلفاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها (حسب العقيدة السنيّة)؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت في أمر الحكومة وتطبيق الأحكام وتحقيق النظام العمليّ في الإسلام بين أبناء الأمّة, لأنّه لا يمكن تصوّر فرض آخر غير ذلك:
"عندما يعين الله تعالى حاكماً للمجتمع بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . فهذا يعني أنّ الحكومة ضروريّة بعد رحيله"75.
"فالمسلمون حديثو عهد بالإسلام وهم بأمسّ الحاجة إلى من ينفّذ القوانين ويحكم أمر الله وإرادته في الناس، من أجل ضمان سعادتهم"76.
"إذا كان تعيين الخليفة ضروريّاً عقلاً لأجل الحكومة، فنحن بحاجة إليه لتنفيذ القوانين"77.

النتيجة أنّ خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي منصب حكوميّ قد ألهم الرسول تطبيقها.

تشريع الإسلام يحتاج إلى منفّذ

إنّ المذهب والدين الذي يقنّن حياة الإنسان ويفكّر حول حياته، يجب أن يُنظر إليه باعتباره عاملاً مؤسّساً للحياة وإذا استودع التدخل فيه، عقول وقلوب البشر، فقد ظُلم وجرى التعامل معه بجفاء.

إذا كانت الشريعة الإسلامية ذات بُعد اجتماعيّ، فلا يمكن أن تكون غير مبالية فيما له علاقة بالأدوات التنفيذيّة. إنّ القوانين الماليّة والحقوقيّة وتعبئة القوى الإنسانيّة لا يمكن أن يحصل بوساطة العقل والقلب، بل جرى تشريعها لأجل صلاح وتنظيم أمور المجتمع. إنّ تطبيق هذه الأمور ونقلها إلى مرحلة الأثمار يحتاج إلى حكومة وسلطة تنفيذيّة, لأنّ هذا العمل سيكون غير ممكن من دونها.

"ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ، فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل. لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصديه للتعليم والنشر والبيان"78.

لو بقيت الماركسيّة والليبراليّة في حدود الذهن والفكر وتمّ الاكتفاء فيهما بالبحث ولم يبادر اتباعهما إلى تأسيس حكومات ماركسيّة وليبراليّة ولو لم تكن الاشتراكيّة والرأسماليّة نظريّتين اقتصاديّتين تتعلّقان بالحكومة، فهل كان بإمكان هذه المدارس إيجاد الحكومة والإمساك بالسياسة والاقتصاد العالميَّيْن كما نشاهد اليوم؟

إنّ المذهب الإسلاميّ ليس أقلّ من المذاهب الأخرى فيما يمتلك، بل يمتلك من الغنى النظريّ بما لا يخفى على أحد من المحقّقين والباحثين. إذاً لماذا لا يوجد حضور قانونيّ وتشريعيّ كما ينبغي ويجب لقوانين الإسلام حتى فيما له علاقة بحكومات المجتمع الإسلاميّ؟ ممّا لا شكّ فيه أنّه يجب البحث من ذلك في تقصير وعدم اهتمام المسلمين. إنّ عدم تنظيم النظريّات الإسلاميّة بالأخصّ في مجالي السياسة والاقتصاد وفي النتيجة غفلة الحكومات الإسلاميّة عنهما وتوهّم أنّ الإسلام لا يحتوي على فلسفة سياسيّة ومذهب اقتصاديّ، كلّ ذلك أدّى إلى انزواء الإسلام عن ساحة التطبيق. ومع ذلك فهناك بعض الحكومات الإسلاميّة التي عملت على إيجاد مكانة لأحكام الإسلام الحقوقيّة والجزائيّة ضمن قوانينها أمثال: القِصاص، الدّيات والحدود وذلك في إطار غير منظّم، إلّا أنّ ذلك غير كافٍ لتقديم الإسلام وإظهار عظمته.

طبعاً قام المسلمون بالدور السلبيّ الأساسيّ في هذا الأمر وأضيف إلى ذلك أطماع ومؤامرات الاستعمار الغربيّ. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:
"روَّج المستعمرون لمسألة أنّ الإسلام لا يشتمل على الحكومة وليس فيه تشكيلات حكوميّة. وإذا كان فيه أحكام فليس فيه من ينفّذها. والخلاصة أنّ الإسلام دين التقنين.
الواضح أنّ هذا الإعلام، جزء من مخطّط المستعمرين لمنع المسلمين من السياسة وأساس الحكومة. إنّ هذا الكلام يخالف معتقداتنا الأساسية"
79.

يعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ حاجة التشريع الإسلاميّ إلى المنفّذ، نابع من حاق الشريعة, وإلّا فستكون حقائق الوحي بتراء على مستوى السعادة والمصلحة البشريّة.
النتيجة: إنّ الاعتقاد بالبناء الإجرائيّ للإسلام ووجود موقع "الإمامة" وعدم انفكاك الإسلام عن الحكومة، كلّ ذلك يشكّل رؤية الإمام قدس سره حول إلهيّة ودينيّة منصب حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته وقيادته الدينيّة.

اتفق متكلّمو الشيعة، على أنّ منصب الإمامة، منصب إلهيّ ودينيّ ومن جملة ذلك:
- اعتبر السيّد مرتضى أنّ الإمامة من جملة أفعال الله تعالى: "والذي من فعله تعالى هو ايجاد الإمام وتمكينه بالقدرة والآلات والعلوم من القيام بما فوّض إليه، والنصّ على عينه والزامه القيام بأمر الإمامة"80.

- اعتبر نصير الدين الطوسيّ أنّ الإمامة من مقتضيات لطف الله تعالى بعباده: "الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى"81.
أكّد العلّامة الحلّي أنّ الإمامة هي رئاسة الناس في أمور الدين والدنيا وهي ناشئة من لطف الله تعالى: "الإمامة رياسة عامّة في أمور الدنيا والدين لشخص من الأشخاص نيابة عن النبيّ وهي واجبة عقلاً لأنّ الإمامة لطف"82.

- اعتبر بعض المتكلّمين في أبحاثهم الكلاميّة أنّ النسبة بين النبوّة والإمامة، هي الحتم والضرورة83، إلّا أنّ كافّة متكلّمي المسلمين، شيعة وسنة، قد اتفقوا على منصب الإمامة للرسول الأكرم وأمّا الذين رفضوا وعارضوا الارتباط بين النبوة والإمامة، لعلّهم أرادوا من ذلك الفصل الخارجيّ، بمعنى أنّ بعض الأنبياء لم يتمكّنوا من قيادة وإمامة الناس في العمل84، كما أنّ بعض الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يَتَسَنَّ لهم ذلك لعدم توفّر الظروف الاجتماعيّة، ومع ذلك كانوا يحملون منصب القيادة والإمامة.

خلود ودوام الإمامة

إنّ أقرب المبادئ الكلاميّة والتي تقوم بدور أساسيّ في فهم وقبول نظريّة ولاية الفقيه، الاعتقاد بدوام وخلود إمامة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام.

اتضح من الأبحاث المتقدّمة أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من بعده قد حملوا في الإسلام منصب القيادة والحكومة من قبل الله تعالى وذلك بسبب سعة دائرة دخالة الإسلام في كافّة مجالات حياة الإنسان، ومن جملة ذلك الحياة الاجتماعيّة وكونه يتضمّن أحكاماً لا يمكن تحقّقها من دون حكومة ليصار بوساطة ذلك إلى تحقّق تعاليم الشريعة في المجتمع بشكل كامل.

هنا يطرح السؤال الآتي: هل يجب استمرار هذه المسألة الدينية في زمان الغيبة؟ بمعنى هل يجب تحقّق وإجراء الدين بكافّة تفاصيله أم أنّه يكتفَى في زمان الغيبة بالعبادات والمعنويّات وبالتالي يجري ترك الأبعاد الاجتماعيّة والتنفيذيّة للدين؟

يقول الإمام الخميني قدس سره: "قد مَرَّ على الغيبة الكبرى أكثر من ألف سنة وقد تمرّ ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، في طول هذه المدّة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطّلة؟... القوانين التي صدع بها نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وجهد في نشرها وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان كل ذلك لمدّة محدودة؟ هل حدّد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ هل ينبغي أن يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كلّ شيء؟!"85.

الواضح أنّ الزمان لا يقلّل من دائرة الدين، بل يجب تحقّق الشريعة بكافّة تفاصيلها بشكل مستمرّ ودائم.
بناءً على ما تقدّم فكما كانت الحاكميّة وقيادة المجتمع في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام أمراً دينيّاً كذلك الحال في زمان الغيبة.

اتضح حتّى الآن من البحث أنّ الكلام عن الضرورة الدينيّة للحكومة، وخلود وجامعية الدين وأن القيادة منصب إلهيّ ثابت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام, واتضح كذلك ضرورة وخلود وثبات القيادة للمعصوم في زمان الغيبة، وهذا يعني أنّ الحكومة كانت مَدّ نظر الإسلام وأنّ "الحكومة الإسلاميّة" ليست اصطلاحاً ومفهوماً وارداً أو مفروضاً من قبل أيّ شخص أو أشخاص. بل الحكومة الإسلاميّة هي تَلَقٍّ وفهمٌ عقليّ عميق وأصيل لمجموعة العناصر المعرفيّة والحقائق الدينيّة لهذه الشريعة.

بعد مرحلة إثبات "الحكومة الإسلاميّة" بمعنى ضرورة تشكيل الحكومة وإسلاميّتها، يأتي الحديث عن مرحلة إثبات تولّيها من قبل "الفقيه". فإذا كانت الحكومة إسلاميّة ويجب أن تتحرّك في إطار خدمة أهداف وأحكام الدين، فهل يمكن لأيّ شخص تحمّل مسؤوليّتها؟ أو أنّ الأمر يقتضي وجود قيادة وحاكميّة خاصّة؟ وبعبارة أخرى هل غفلت شريعة الإسلام عن مسألة تعيين الخليفة أم أنّها لم تغفل عنه كما لم تغفل عن الأمور الأخرى، نشير هنا إلى رأي وجواب الإمام قدس سره بعد عرض السؤال الآتي: من هو الشخص المكفّل بإقامة الحكومة في زمان الغيبة؟

يعتقد الإمام الخميني قدس سره أنّ إقامة الحكومة في زمان الغيبة على عاتق الفقهاء والعارفين بالدين وهذه هي بالضبط نظرية "ولاية الفقيه". وقد اتبع الإمام قدس سره أسلوبين لإثبات هذه العقيدة:
1- الأسلوب العقليّ والرؤية الخارجيّة للدين والحكومة.
2- الأسلوب النقليّ والبحث من داخل الدين.

الأسلوب العقلي
لجأ الإمام قدس سره هنا إلى قياس جعل صغراه النتيجة الحاصلة من الأبحاث المتقدّمة وهي أنّ: الحكومة خادمة للدين وهي بمثابة أداة لتحقّق القوانين الإسلاميّة، ليصل من خلال ذلك إلى إثبات "ولاية الفقيه" وضرورة تولّي الفقيه للحكومة:
"إنّ الحكومة الإسلاميّة لمّا كانت حكومة قانونيّة بل حكومة القانون الإلهيّ فقط ـ وإنّما جعلت لأجل إجراء القانون وبسط العدالة الإلهيّة بين الناس ـ لا بُدَّ في الوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونيّة، ولا يعقل تحقّقها إلّا بهما: إحداهما العلم بالقانون وثانيتهما العدالة، ومسألة الكفاية داخلة في العلم بنطاقه الأوسع، ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضاً، وإن شئت قلت: هذه شرط ثالث من أسس الشروط"86.

الواضح أنّ أساس استدلاله يقوم على أساس إسلاميّة الحكومة، يعتقد الإمام قدس سره أنّ المجتمع الإسلاميّ بحاجة إلى حكومة يؤدّي تطبيق قوانين الإسلام فيها، إلى وجود عالم عادل عاقل ومعنويّ ووجود تربية تؤدّي إلى السعادة. ممّا لا شكّ فيه أنّ هكذا حكومة يجب أن يكون على رأسها عالم بالدين والثقافة والقوانين والأهداف التي أرادتها الشريعة وهو على علم بالإدارة والتدبير اللازمَيْن لقيادة المجتمع: "إذا كان الحاكم غير عالم بالقانون فهو غير لائق للحكومة, لأنّه إذا قلّد فقد كسر سلطة الحكومة وإذا لم يقلّد لم يكن بإمكانه الحكم وتنفيذ قانون الإسلام"87.

الأسلوب النقليّ

تعتمد رؤية الإمام قدس سره في إثبات نظريّة ولاية الفقيه على الفهم العقليّ العميق لحقائق ومعارف الدين. وإذا كان الإمام قدس سره قد استند في هذا الأمر إلى الدليل العقليّ، فهو إلى جانب ذلك اعتمد على الدليل النقليّ حيث الاستناد إلى الآيات والروايات.

تحدّث الإمام بعد توضيحه كفاية الدليل العقليّ في المسألة فقال: "ومع ذلك دلّت عليها بهذا المعنى الوسيع روايات نذكر بعضها"88 ثم بدأ دراسة الروايات حيث وصل في النهاية إلى النتيجة الآتية: "إنّ الولاية الثابتة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام, ثابتة للفقيه أيضاً. لا شكّ في هذا المطلب، إلّا إذا قام الدليل على ما يخالفه"89.

وبما أنّ محاولتنا قد تركّزت على البعد العقليّ والخارجيّ الذي نظر الإمام قدس سره من خلاله إلى موضوع البحث، لذلك لا مجال للحديث حول الروايات وكيفيّة الاعتماد عليها في الاستدلال.

* من كتاب روضة المبلغين (3)، سلسلة روضة المبلغين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج74/165، مؤسسة الوفاء، بيروت.
2- ولاية الفقيه، الإمام الخميني / 7 المقدمة، نشر آثار الإمام الخميني قدس سره.
3- كتاب البيع، الإمام الخميني، ج2 /459 ـ 501، اسماعيليان.
4- ولاية الفقيه / 7 المقدمة.
5- م. ن/3.
6- م. ن/20.
7- سورة فصلت، الآيتان: 41 ـ 42.
8- الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج17/398، بيروت.
9- سورة الحجر، الآية: 9.
10- أصول اكافي، الكليني، ج1/61، بيروت, نهج البلاغة، ترجمة شهيدي، الخطبة 158/159.
11- نهج البلاغة، الخطبة 198/233.
12- مجموعة مقالات مؤتمر دراسة المبادئ الفقهية للإمام الخميني، ج10.
13- ولاية الفقيه/18 ـ 19.
14- م.ن/31.
15- م.ن.
16- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج1/251، الباب 182، ح9، بيروت.
17- ولاية الفقيه/31.
18- سورة النحل، الآية: 89.
19- سورة المائدة، الآية: 3.
20- سورة الأنعام، الآية: 38.
21- أصول الكافي، الكليني، ج1/59، ح1، بيروت.
22- ولاية الفقيه/21.
23- سورة النحل، الآية: 44.
24- سورة الحشر، الآية: 7.
25- سورة الواقعة، الآية: 79.
26- أصول الكافي، ج1/213 ـ 214، 260 ـ 261.
27- سورة الأنفال، الآية: 29.
28- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج18/19، ح9، بيروت.
29- المدراء والإدارة، عبد الكريم سروش/274.
30- صحيفة النور، ج2/155.
31- م.ن، ج16/324.
32- م.ن، ج5/241.
33- م.ن، ج20/156.
34- م.ن/157.
35- بحار الأنوار، ج75/46.
36- سورة النساء، الآية: 97.
37- سورة الأحزاب، الآية: 67.
38- تحف العقول، الشيخ الحراني/42، بيروت.
39- سورة الحديد، الآية: 25.
40- ولاية الفقيه/37.
41- صحيفة النور، ج21/98.
42- مجموعة آثار الشهيد مطهري، ج3/281 و318، صدرا.
43- سورة الرعد، الآية: 7.
44- سورة الرعد، الآية: 40.
45- سورة الغاشية، الآيتان: 21 ـ 22.
46- الإسلام وأصول الحكم، عبد الرزاق /53 نقلاً عن الخلافة والإمامة، عبد الكريم الخطيب /219، بيروت.
47- سورة الحج، الآية: 40.
48- سورة الأنفال، الآية: 60.
49- سورة النساء، الآية: 90.
50- سورة التوبة، الآية: 29.
51- سورة التوبة، الآية: 105, سورة الحج، الآية: 41, سورة النور، الآية: 37.
52- سورة البقرة، الآية: 179.
53- سورة النساء، الآية: 92.
54- سورة النور، الآية: 2 و4.
55- سورة النساء، الآية: 65.
56- سورة النساء، الآية: 59.
57- ولاية الفقيه /17.
58- سورة النساء، الآية: 59.
59- ولاية الفقيه / 60.
60- سورة البقرة، الآية: 275.
61- سورة النساء، الآيتان: 3 ـ 4.
62- سورة البقرة، الآيتان: 231 و232.
63- سورة الحشر، الآية: 7.
64- سورة التوبة، الآية: 60, سورة الماعون، الآيات: 1 ـ 3.
65- سورة المائدة، الآيتان: 4 ـ 5.
66- سورة الفتح، الآية: 29.
67- سورة المائدة، الآية: 49.
68- سورة آل عمران، الآيات: 104 و110.
69- سورة آل عمران، الآية: 103.
70- سورة الأنفال، الآية: 46.
71- سورة الحجرات، الآية: 9.
72- ولاية الفقيه/20.
73- سورة المائدة، الآية: 67.
74- ولاية الفقيه / 15.
75- م.ن /18.
76- م.ن /17.
77- م.ن/14.
78- م.ن/15.
79- م.ن/14.
80- الذخيرة، السيد مرتضى /419، الانتشارات الإسلامية، جامعة المدرسين.
81- تجريد الاعتقاد، الخواجه نصير الدين الطوسي /221، تحقيق حسيني جلالي، الإسلامي.
82- الباب الحادي عشر، العلامة الحلي /39، تحقيق الدكتور مهدي محقق، الحضرة الرضوية.
83- الرسائل العشر، الشيخ الطوسي /111 ـ 114، الانتشارات الإسلامية.
84- ولاية الفقيه أساس الحكومة الإسلامية، آية الله جوادي الآملي / 108.
85- ولاية الفقيه /19.
86- كتاب البيع، الإمام الخميني، ج2/ 464 ـ 465.
87- ولاية الفقيه / 38.
88- كتاب البيع، ج2/467.
89- ولاية الفقيه /112.

01-06-2015 | 14-52 د | 2425 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net