المقدّمة:
أشار الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم خلال
فترة رسالته وبشكل متكرّر
إلى مسألة الخلافة بعده
حيث اعتبرها أمراً يعود
لله تعالى. وإذا كانت
الكتب الشيعية تؤكّد على
مسألة تنصيب الإمام من
قبل الله تعالى فإنّ
الكثير من كتب أهل السنّة
قد صرحت بذلك أيضاً.
يتحدث الطبري في تاريخه
عن أن الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم وبعد
مضي ثلاث سنوات على بداية
البعثة جاءه أمر من الله
تعالى بدعوة عشيرته إلى
الإسلام حيث نزلت الآية
الشريفة:
﴿وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ﴾1.
عند ذلك جمع الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم قادة
بني هاشم حيث حدثهم بأنه
يريد لهم خير الدنيا
والآخرة.
وأخبرهم بأمر الله تعالى
له لدعوتهم إلى الإسلام
داعياً إياهم إلى مساندته
على أن يكون أخيه ووصيه
وخليفته. وكرّر دعوته
ثلاث مرّات حيث كان ينهض
الإمام علي عليه السلام
في كلّ مرّة ليعلن موقفه
المساند للرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم.
هنا وقف الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم وقال:
"إنّ هذا أخي وصييِّ
وخليفتي فيكم"2.
ويتحدّث الطبري في مكان
آخر بأن الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم عندما كان
يتجوّل في قبيلة
بني عامر
داعياً إياهم إلى
الإسلام، أعلن أحد
الأشخاص قبوله الدعوة،
وتوجّه إليه قائلاً
هل ستؤول قيادة المسلمين
إلينا من بعدك إذا ما
نصرك الله على عدوك؟
خاطبه الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم قائلاً:
"الأمر إلى الله يضعه
حيث يشاء"3.
أراد الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم من هذا
النوع من الكلام الصريح
والواضح إعداد الأذهان
وتهيئة الأرضية لوصول
الخطاب الإلهي الأخير حول
قيادة الأمة الإسلامية،
لذلك كان يشير إلى مسألة
الولاية والقيادة من بعده
ويتحدّث عن أن عليّاً
عليه السلام هو أفضل شخص
مؤهّل لهذا المنصب. وفي
النهاية تحقّق الوعد الذي
كان ينتظره وقام الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
خطيباً بين أعداد كبيرة
من المسلمين كانت عائدة
من الحجّ حيث جمعهم في
مكان يدعى غدير خمّ،
وأعلن من هناك تنصيب
الإمام عليّ عليه السلام
وأولاده لخلافة المسلمين،
وبقيت العبارة المشهورة
التي تؤكد ولاية وخلافة
عليّ عليه السلام: "من
كنت مولاه فهذا عليُّ
مولاه" وبعد وفاة
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم تغيّرت الأوضاع
وبدأت حملة واسعة تعارض
ولاية الإمام عليّ عليه
السلام وتخالف حديث
الغدير. وبما أنهم كانوا
عاجزين عن إنكار واقعة
الغدير، لجأوا إلى
تأويلات وتفسيرات متعددة.
قالوا إنّ المقصود من
عبارة "المولى" هو
النصير والمحبّ والصديق
لعلّهم بذلك يتمكنون من
تحريف الحديث والوصول إلى
مبتغاهم. وفيما يلي نشير
إلى بعض الشواهد التي
تثبت أنّ المقصود من "المولى"
هو الإمامة والقيادة.
الشواهد
1ـ مقاطع من حديث الغدير
الشريف
ألف ـ تحدّث الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم في يوم الغدير
قائلاً: "لا إله إلا هو ـ
لأنه قد أعلمني أني إن لم
أُبلغ ما أنزل إليَّ في
حقّ عليَّ فما بلّغت
رسالته، فقد ضمن لي
(تبارك وتعالى) العصمة من
الناس وهو الله الكافي
الكريم، فأوحى إليَّ.
﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾
(في
علي يعني في الخلافة
لعلي بن أبي طالب عليه
السلام)
﴿وَإِن
لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ﴾4.
معاشر الناس! ما قصّرت في
تبليغ ما أنزل الله تعالى
إليَّ، وأنا أبين لكم سبب
هذه الآية.
إنّ جبرائيل عليه السلام
هبط إليَّ مراراً ثلاثاً
يأمرني عن السلام ربي وهو
السلام أن أقوم في هذا
المشهد، فَأُعِلم كلّ
أبيض وأسود أنَّ عَلي بن
أبي طالب، أخي وصيِّي
وخليفتي على أمتي والإمام
من بعدي، الذي محلّه مني
محل هارون من موسى، إلا
أنه لا نبيّ بعدي، وهو
وليكم بعد الله ورسوله
وقد أنزل الله تبارك
وتعالى عَليَّ بذلك آية
من كتابه:
﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾5.
وعلي بن أبي طالب عليه
السلام الذي أقام الصلاة
وآتى الزكاة وهو راكع
يريد الله عزَّ وجلَّ في
كل حال.
ب
ـ معاشر الناس! لا تضلوا
عنه ولا تنفروا منه، ولا
تستنكفوا من ولايته، فهو
الذي يهدي إلى الحقّ
ويعمل به، ويزهق الباطل
وينهى عنه، ولا تأخذه في
الله لومة لائم.
- معاشر الناس فضِّلوه
فقد فضّله الله، واقبلوه
فقد نصبه الله.
- معاشر الناس إنه إمام
من الله، ولن يتوب الله
على أحد أنكر ولايته ولن
يغفر لله له، حتماً على
الله أن يفعل ذلك ممّن
خالف أمره فيه وأن يعذبه
عذاباً نكراً، أبد الآباد
ودهر الدهور.
فاحذروا أن تخالفوه
فتصلوا ناراً وقودها
الناس والحجارة أُعدّت
للكافرين.
ج
ـ ألا إنّ جبرئيل أخبرني
عن الله تعالى بذلك
ويقول: "من عادى علياً
ولم يتولّه فعليه لعنتي".
دـ معاشر الناس... من كنت
مولاه فهذا عليُّ مولاه،
وهو عليّ بن أبي طالب أخي
ووصيّي ومولاته من الله
عزَّ وجلَّ أنزلها
عَلَيَّ.
هــ ألا وقد بلغت، ألا
وقد اسمعت، ألا وقد
أوضحت، ألا وإنّ الله
عزَّ وجلَّ قال وأنا قلت
عن الله عزَّ وجلَّ، ألا
إنه لا أمير للمؤمنين غير
أخي هذا.
وـ معاشر الناس! هذا علي
أخي ووصيّي وواعي علمي،
وخليفتي في أمتي... إنه
خليفة رسول الله وأمير
المؤمنين، والإمام الهادي
إلى الله...
زـ معاشر الناس! إنما
أكمل الله عزَّ وجلَّ
دينكم بإمامته فمن لم
يأتمّ به وبمن يقوم مقامه
من ولدي من صلبه إلى يوم
القيامة، والعرض على الله
عزَّ وجلَّ، فأولئك الذين
حبطت أعمالهم،
وفي النار هم خالدون، لا
يخفف عنهم العذاب ولا هم
ينظرون"6.
2ـ اعتراف علماء السنّة
نقل مجموعة من علماء أهل
السنّة روايات متعددة
وذكروا فيها أنّ المراد
منها ولاية الإمام عليّ
عليه السلام.
أ ـ عن أبي سعيد الخدري
قال: نزلت هذه الآية:
﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾
على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوم غدير
خم في عليّ بن أبي طالب
عليه السلام.
ب ـ عن ابن عباس في قوله
تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ
فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾
قال: نزلت في علي عليه
السلام، أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
أن يبلغ فيه فأخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم بيد علي عليه السلام
فقال: "من كنت مولاه
فعلي مولاه اللهمّ وال من
والاه وعاد من عاداه"7.
3-
إشهاد الناس
عندما بدأ الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم
حديثه حصل على اعتراف
وإقرار الناس حول ثلاثة
أمور: "ألستم تشهدون
أن لا إله إلا الله وأنّ
محمداً عبده ورسوله وأنَّ
الجنّة حقّ والنار حقّ؟".
ما هو هدف هذا الإقرار
والاعتراف؟: في الواقع
إنّ هذا الإقرار يُراد
منه إعداد أذهان الناس
لقبول المقام والموقع
الذي تمّ إثباته للإمام
عليّ عليه السلام كما
يتمّ قبول تلك الأصول
وليدرك الناس أنّ الإقرار
بالولاية والخلافة للإمام
عليه السلام هو رديفُ
الأصول الثلاثة التي يقرّ
ويعترف بها الجميع. فلو
كان المقصود من المولى
الصديق والنصير لما أمكن
ربط الجمل ببعضها ولفقدت
قوتها البلاغية
والكلاميّة وذلك لسببين:
الأوّل: أنّ
الإمام عليّاً عليه
السلام من دون الولاية،
هو شخص مسلم عاش في ذاك
المجتمع حيث لا يشكّ أحد
في ضرورة محبة وصداقة
الأشخاص المؤمنين فلا
حاجة ليأتي الرسول ويؤكّد
عليه.
الثاني: لا يمكن
أن تكون هذه المسألة هامة
إلى درجة وضعها رديفَ
الأصول الثلاثة.
4ـ
بيعة أبي بكر وعمر
ينقل كبار مفسّري ومؤرّخي
أهل السنّة أنّ أبا بكر
وعمر كانا من أوائل
الأشخاص الذين توجّهوا
إلى الإمام عليّ عليه
السلام بعد خطبة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم
وخاطبوه قائلين: "بخ
بخ يا عليّ أصبحت مولاي
ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة"
أو "هنيئاً لك يا ابن
أبي طالب أصبحت وأمسيت
مولى كلّ مؤمن ومؤمنة"8.
5ـ حول شأن نزول آية
إكمال الدين
نقل عدد كبير من مفسّري
ومؤرّخي أهل السنّة أنه
بعد إعلان ولاية الإمام
عليّ عليه السلام يوم
غدير خمّ وتوافد الناس
لبيعته كوليّ ووصيّ، نزلت
آية الإكمال الشريفة
(المائدة: 3).
عندما نزلت الآية
الشريفة:
﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينًا﴾،
تحدّث الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم
فقال: "الله أكبر على
إكمال الدين وإتمام
النعمة ورضا الربّ
برسالتي وولاية عليّ بن
أبي طالب من بعدي (ثمّ
قال) من كنت مولاه فعليّ
مولاه اللهمّ والِ من
والاه وعادِ من عاداه
وانصُر من نصره واخذِل من
خذله"9.
6ـ التعميم
أخذ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوم غدير
خمّ عِمامته المعروفة
باسم "السحاب"
ووضعها تاج افتخار على
رأس الإمام عليّ عليه
السلام ثمّ وضع طرفها على
كتفه وقال: " العِمامة
تاج العرب". يقول
الإمام عليّ عليه السلام
في هذا الخصوص:
"عمَّمني رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يوم
غدير خمّ بعِمامة فَدَلّ
طرفها على منكبي وقال:
إنَّ الله أيدني يوم بدر
وحنين بملائكة معتمّين
بهذه العِمامة"10.
7ـ المعجزة والتأييد
الإلهيّ
جاء في الأخبار أنّ
الحارث الفهريّ وفد إلى
رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم من اثني عشر
رجلاً حيث سأل الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم:
"يا أحمد أمرتنا بالصلاة
والزكاة
أفمنك كان
هذا أم
من ربّك يا محمّد؟...
فأمرتنا بحبّ عليّ بن أبي
طالب عليه السلام زعمت
أنه منك كهارون من
موسى... أهذا سبق من
السماء أم كان منك يا
محمد؟ قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: بلى
سبق من السماء ثمّ كان
منّي...".
عند ذلك نهض الحارث ومن
معه وقال: اللهمّ إن كان
محمَّد صادقاً في مقالته
فارم علينا بشوظ من نار.
وقيل إنّ صاعقة نزلت به
وبأصحابه من السماء. وفي
هذا الشأن نزلت الآية
الشريفة:
﴿سَأَلَ
سَائِلٌ بِعَذَابٍ
وَاقِعٍ
*
لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دَافِعٌ﴾11
وقد ساهمت هذه المعجزة في
وجود حالة من اليقين عند
الجميع بأنّ مسألة الغدير
تعود إلى مصدر الوحي وهي
أمر إلهيّ12.
8 ـ ظروف إعلان الحديث
لو كان المقصود من حديث
الغدير الإعلان عن مراتب
ودرجات محبّة الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام
فليس من الضروريّ أن يقف
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم في ذلك الجوّ
الملتهب ليجمع القوافل
تحت أشعّة الشمس المحرقة،
مع العلم أنّ القرآن
الكريم قد صرّح بأنّ
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾13،
وهذا يعني أنّ الأخوة
والمحبّة تربطان أفراد
المجتمع المسلم، وعليّ
عليه السلام هو أحد أفراد
هذا المجتمع، فلا حاجة
ليقوم الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم بالإعلان
عن أمر معروف وواضح، وقد
تحدّث به القرآن الكريم.