المجلس الثالث

جَرَى دَمْعِيْ لِمَصْرَعِ شِبْلِ طَهَ                           
فَمَا أَدْرِيْ أُعَزِّي أَمْ أُهَنِّيْ                                       
فَطَوْراً لِلْوَصِيِّ بِهِ أُهَنِّيْ                                               
عَلِيٌّ بِالطُّفُوْفِ أَقَامَ حَرْباً                                    
وَقَاتَلَ بَكْرَهُمْ كَقِتَالِ عَمْروٍ                                             
وَصَيَّرَ كَرْبَلَا بَدْراً وَأُحْداً                                                
وَطَوْراً يَا عَلِيُّ أُعَزِّي فِيْهِ                                         
كَأَنِّيْ بِالحُسَيْنِ غَدَا يُنَادِيْ                                              
رَجَوْتُكَ يَا عَلِيُّ تَعِيْشَ بَعْدِي                                        
وَتَمْشِيْ بَاكِياً مِنْ خَلْفِ نَعْشِي                                          
وَلَمْ أَنْسَ النِّسَاءَ غَدَاةَ فَرَّتْ إِلَى                                         
فَهَذِي قَبَّلَتْ كَفَّاً خَضِيبَاً                                        
وَزَيْنَبُ قَابَلَتْ لَيْلَى وَقَالَتْ                                        
عَلَىْ حُلْوِ الشَّبَابِ وَبَدْرِ تَمٍّ                                            
وَتَاهَ الفِكْرُ فِي الحُزْنِ الشَّدِيْدِ
عَلِيَّ المُرْتَضَىْ بِابْنِ الشَّهِيْدِ
وَأَنْظُمُ مَدْحَهُ نَظْمَ العُقُوْدِ
كَحَرْبِكَ يَا عَلِيُّ مَعَ اليَهُوْدِ
وَجَدَّلَهُ عَلَىْ وَجْهِ الصَّعِيْدِ
وَنَادَىْ يَا حُرُوبَ الجَدِّ عُوْدِي
وَتَبْكِي العَيْنُ لِلْعَقْدِ الفَرِيْدِ
عَلَيْنَا يَا لَيَالِي الوَصْلِ عُوْدِي
لِتُوَسِدَ جُثَّتِي رَمْسَ اللُّحُوْدِ
كَمَا يِبْكِي الوَلِيْدُ عَلَى الفَقِيْدِ
نَعْشِ الشَّهِيْدِ ابْنِ الشَّهِيْدِ
وَشَمَّتْ تِلْكَ وَرْداً فِي الخُدُوْدِ
أَعِيْدِي النَّوْحَ يَا لَيْلَىْ أَعِيْدِي
شَبِيْهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الجُدُودِ

203


شعبي:

يا علي يبني النوب ذلّيت
عمود الوسط ياشايل البيت
انه بيش اجيت وبيش ردّيت
والموت ياخذني تمنيت
يبني بعد عندي شخلّيت
بعدك عساني لا بقيت

أبوذيّة:

حزن ليلى عليها اشتد وهمها
تدرون اشعمل بيها وهمها
او گلبها عد عليّ الأكبر وهمها
على ابنيها تغير وجه أبيّه

يُروى أنّه دخل رجل نصرانيّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للناس: إنّي رأيت البارحة في منامي رسول الله ومعه عيسى بن مريم, فقال لي عيسى بن مريم: أسلم على يد خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله فإنّه نبيّ هذه الأمّة حقّاً, وأنا أسلمت على يده وأتيت الآن لأجدّد إسلامي على يد رجل من أهل بيته,


204


قال: فجاؤوا به إلى الحسين عليه السلام فوقع على قدميه يقبّلهما, فلمّا استقرّ به المجلس قصّ عليه الرؤيا التي رآها في المنام, فقال له: أتحبّ أن آتيك بشبيهه؟ قال: بلى سيّدي, قال فدعا الحسين عليه السلام بولده عليّ الأكبر وكان إذ ذاك طفلاً صغيراً, وقد وضع على وجهه البرقع, فجيء به إلى أبيه فلمّا رفع الحسين البرقع من على وجهه ورآه ذلك الرجل وقع مغمى عليه, فقال الحسين عليه السلام: صبّوا الماء على وجهه ففعلوا, فلمّا أفاق التفت إليه الحسين عليه السلام وقال له: يا هذا إنّ ولدي هذا شبيهٌ بجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال الرجل: إي والله, فقال له الحسين عليه السلام: يا هذا إذا كان عندك ولد مثل هذا وتصيبه شوكة ما كنت تصنع؟ قال: سيّدي أموت, فقال الحسين عليه السلام: أخبرك أنّي أرى ولدي هذا بعيني مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً.

ولذلك عندما يسمع عليّ الأكبر نداء الحسين: ألا من ناصر ينصرنا؟ ألا من ذابّ يذبّ عنّا؟ وبعد أن استُشهد أصحابه وأنصاره يبرز عليّ الأكبر, ينظر إليه الإمام الحسين ويطلق لعينيه العنان فتنحدر الدموع وقد أرخى رأسه لئلّا يراه العدوّ فيشمت به, ثمّ رفع رأسه مشيراً بسبابته إلى السماء وقال: اللهمّ اشهد عليهم, فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً


205


ومَنْطِقاً برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, فحمل على القوم وجعل يقاتلهم قتال الأبطال فقتل منهم رجالاً كثيرة فلم يخرج إليه أحد إلّا قتله, إلى أن نادى عمر بن سعد: ألا رجل يخرج إليه؟ فبادر إليه بكر بن غانم, هذا والحسين في تلك الساعة واقف بباب الخيمة وليلى تنظر في وجه الحسين تراه يتلألأ نوراً وسروراً بشجاعة ولده الأكبر, فبينما هو كذلك وإذا بوجه الحسين قد تغيّر لونه, فقالت له: سيّدي, أرى لونك قد تغيّر هل أصيب ولدي؟

قال لها: لا يا ليلى, ولكن برز إليه من يُخاف منه عليه, قالت: وما أصنع؟ قال: يا ليلى إدعي لولدك فإنّي سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ دعاء الأمّ مستجاب في حقّ ولدها. دخلت ليلى إلى الخيمة, رفعت يديها إلى السماء قائلة: إلهي بغربة أبي عبد الله, إلهي بعطش أبي عبد الله, يا رادَّ يوسف إلى يعقوب أردد لي ولدي عليّ..

ردت للخيام تصيح يا رب ارحم أحوالي
لله توجهت والعين تدمع والكبد حرى
وسلملي عديل الروح شبه المصطفى الغالي
ولله ورفعت إيد وإيد بيها تكفكف العبرة

206


صاحت لا تخليني وحيدة واجلب الحسرة
بجاه اللي انطبر راسه وطاح بمسجد الكوفة
سلملي بدر سعدي وخلي يعود باشوفه
يا رب لا تخيبني وسلم ثمر دلالي
وبحسين وعطش كبده وبالعبّاس وكفوفه
ارحم غربتي باموت وارحم غربة الوالي


 

طبت لخيمتها الغريبة
وتوسلت لله ابحبيبه
يا راد يوسف من مغيبه
اريدن عليّ سالم تجيبه
تبكي او على ابنيها امريبه
او بالحسين وشما بيه مصيبه
اليعگوب ومسكن نحيبه

فاستجاب الله دعاء ليلى ورجع عليّ إلى أبيه ولكن بأيّ حالة, رجع إليه وهو ينادي: أبه العطش قد قتلني, وثقل الحديد قد أجهدني, فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء؟ فصاح الحسين: واولداه وارتفعت الصيحة عند الهاشميّات كلّ


207


تنادي: واعليّاه..

يَشْكُوْ لِخَيْرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَمَا اشْتَكَى
فَانْصَاعَ يُؤْثِرُهُ عَلَيْهِ بِرِيْقِهِ
كُلٌّ حُشَاشَتُهُ كَصَالِيَةِ الغَضَىْ
ظَمَأَ الحَشَىْ إِلَّا إِلَى الظَّامِي الصَّدِي
لَوْ كَانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ
وَلِسَانُهُ ظَمَأً كَشِقَّةِ مِبْرَدِ

 

اريد قطرة ماي قلبي من العطش ذاب
غارت عيوني او نزف دمي كثر الجراح
خل الدرع عني بهظني ثقل لسلاح
وغارت اعيوني واظلم الوادي عليه
واتفطرت يا بوي كبدي والعزم راح
حر الشمس ذوب افادي يا شفيه

ثمّ قال له الحسين عليه السلام: بنيّ عليّ, ضع لسانك على لساني, أخذ عليّ لسان أبيه فوجده كالخشبة اليابسة من شدّة العطش..
فقال له الحسين عليه السلام: بنيّ يعزّ والله على أبيك أن يراك بهذه الحالة, يا بنيّ قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمّداً فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً.

أراد الرجوع إلى الحرب وإذا بالنساء خرجن ينادين: ارحم غربتنا ارحم وحدتنا. صاح الحسين عليه السلام: ولدي عليّ ارجع


208


وودِّع العيال والأطفال, وأخاف أن تتبعك إلى المعركة.

رجع عليّ الأكبر ودخل إلى الخيمة, اجتمعت بنات الرسالة عليه هذه تقبّل كتفه, هذه تقبّل يده, هذه تنتحب بوجهه.

فصاح الحسين عليه السلام: دعنه فقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه.
قال الراواي: وأفلت عليّ الأكبر ورجع إلى الميدان وجعل يقاتل قتال الأبطال, يقول حميد بن مسلم: كنت واقفاً وبجنبي مرّة بن منقذ العبديّ وعليّ بن الحسين يشدّ في القوم يمنة ويسرة فيهزمهم, فقال مرة: عليّ آثام العرب إن مرّ بي هذا الغلام ولم أثكل به أباه, فقلت: لا تقل هذا, يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه, فقال: والله لأفعلن, قال: ومرّ بنا عليّ الأكبر وهو يطرد كتيبة أمامه, فطعنه برمحه فانقلب على قربوس سرج فرسه, واعتنق الفرس فحمله الفرس إلى معسكر الأعداء, فاحتوشوه وجعلوا يضربونه بأسيافهم, ولمّا بلغت روحه التراقي نادى برفيع صوته: أبه عليك منّي السلام, هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً وإنّ لك كأساً مذخورة حتّى تشربها.

لَهُ كَمَنَ ابْنُ مُرَّةَ مُسْتَثِيراً  ويَأْبَاهُ اللِّئَامُ أُولُو الشِّقَاقِ

209


فَقَنَّعَ رَأْسَهُ شُلَّتْ يَدَاهُ
فَخَرَّ مُقَطَّعاً بَيْنَ الأَعَادِي
يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَدَعَا أَبَاهُ
فَهَذَا المُصْطَفَى جَدِّي أَتَانِي
فَغَادَرَهُ خَضِيباً بِانْفِلاقِ
وَطَعْنَاً صَارَ لِلْبِيضِ الرِّقَاقِ
وَمِنْهُ الرُّوْحُ قَدْ بَلَغَتْ تَرَاقِ
بِأَوْفَى كَأْسِهِ أَبَتَاهُ سَاقِي

ثمّ انحدر إليه الحسين عليه السلام ومعه أهل بيته حتّى وقف عليه ورآه مقطّعاً بالسيوف إرباً إرباً, فأخلى رجليه من الركاب معاً ورمى بنفسه من على ظهر الجواد وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدّه...

هوه فوگه اوحط خده على خده
شمه اوصاح عمرك هذا حده
او صدره فوگ صدره اوزاد وجده
ينور العين يوليدي يلكبر

ثمّ قال: يا بنيّ يا بنيّ قتل الله قوماً قتلوك, ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول...

يبويه اشلون گلي دارو عليك
تحاكيني يروحي ماني احاكيك
اظن امن الطبر ما ظل نفس بيك
وحگ جدك اصواب البيك بيه

210


ثمّ انهملت عيناه بالدموع وقال: ولدي عليّ على الدنيا بعدك العفا, أمّا أنت فقد استرحت من هَمّ الدنيا وغمّها وبقي أبوك لهمّها وكربها.
قال حميد بن مسلم: لكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت من الفسطاط وهي تنادي: يا حبيباه يا بن أخيّاه, سألت عنها فقيل لي: هي عمّته زينب ابنة عليّ, فجاءت حتّى انكبّت عليه فأخذها الحسين عليه السلام بيده وردّها إلى الفسطاط..

دخليني يخويه احسين يمه
علي اعيوني واريد الصدري اضمه
احس ابدمع عيني اجروح جسمه
واشيله للخيم وياك يحسين

ثمّ التفت إلى فتيانه وقال لهم: احملوا أخاكم, فحملوه وجاؤوا به إلى الخيمة, واجتمعت النساء ومعهنّ ليلى وارتفع البكاء منهنّ, هذا والحسين عليه السلام ينظر إلى المشهد الحزين والدموع تنهمر من عينيه وتسيل على خدّيه وهو يردّد ويقول: بنيّ عليّ, قتل الله قوماً قتلوك...

گعد عنده اوشافه مغمض العين ابدمه سابح وامترب الخدين

211


متواصل طبر والراس نصين
يبويه گول منهو الشرك راسك
يعگلي من نهب درعك وطاسك
يبويه من عدل راسك اورجليك
ينور العين كل سيف الوصل ليك
حنا ظهره على ابنيه وتحسر
ينور العين من خمد انفاسك
يروحي اشلون اشوفنك مطبر
او من غمض اعيونك واسبل ايديك
گطع گلبي او لعند حشاي سدر

 

يُنَادِيْهِ وَلَيْسَ بِهِ حِرَاكٌ
عَلَى الدُّنْيَا العَفَا يَا نُوْرَ عَيْنِيْ
بُنَيَّ اليَوْمَ فَارَقَنَا الرَّسُوْلُ
فَبَعْدَكَ غَيْرَ هَذَا لَا أَقُوْلُ

يا الله


212